أحمد محمود عجاج
TT

كيماوي دوما... ابحث عن إيران

حبس العالم أنفاسه عندما هدد ترمب بأن روسيا والأسد وإيران سيدفعون الثمن باهظاً؛ عقاباً على ما فعلوه في دوما، وردت روسيا بأنها سترد على أي ضربة، وحذرت من تداعيات خطيرة. ما يستوقف المتابع هنا ليست ردات الفعل الأميركية والفرنسية والبريطانية، وحتى الروسية؛ لأنها كلها متوقعة، لكن ما ليس متوقعاً: لماذا تُضْرب دوما بالكيماوي، وبعد أن انتهت حرب الغوطة واستسلم الثائرون على نظام الأسد؟! لماذا تخاطر روسيا بسمعتها مجدداً؟ ولماذا تستدعي بهذا التصرف حنق الغرب، وكذلك رده غير المتوقع بمواجهة التمدد الروسي، وتحميل روسيا تكاليف باهظة في وقت يعاني اقتصادها من التراجع، وشركاتها من وطأة العقوبات الأميركية، وعملتها من تراجع في قيمتها؟!
في علم الجريمة، أول ما يتبادر إلى الذهن عند وقوع جريمة، السؤال التالي: من المستفيد؟! للإجابة عن هذا السؤال فإنه يستبعد أن تكون أميركا؛ لأن ترمب أعلن قبل أسبوع أنه سينسحب من سوريا بعد القضاء على «داعش»؛ أي أنه سيترك للروس مهمة ترتيب البيت السوري كيفما يشاء بوتين وحلفاؤه! ويُسْتبعد أيضاً أن تكون فرنسا التي أعلن رئيسها الجديد ماكرون أن فرنسا ليس لها عداء مع الأسد؛ بل الأسد عداوته مع شعبه؛ بعبارة أخرى: ليحكم سوريا من كان، طالما يضمن الاستقرار ويقمع ما يعتبرونه إرهاباً. وكذلك بريطانيا المشغولة بقضاياها الداخلية ومشكلاتها مع روسيا، لا يهمها، إلا من باب ذر الرماد في العيون، بقاء الأسد أو خروجه.
حتى الرئيس الأسد نفسه الذي اتهمت نظامه لجنة التحقيق الدولية بمجزرة خان شيخون، واتهمته باستخدام الكيماوي مرات عدة، يجعل المرء يتساءل: لماذا يفعل ذلك الآن بعدما تمكن من إخراج الثوار من ضواحي العاصمة، ضد مدينة محاصرة وعلى وشك الاستسلام؟! فالأسد يعرف بلا شك أن استخدامه لهذا السلاح سيجر عليه، بعد تكاثر الأدلة، مخاطر جره إلى محاكمات دولية، على شاكلة مجرمي الحرب في البوسنة والهرسك ورواندا. ولكي نذهب أبعد من ذلك، لا نرى كذلك، من باب التحليل، مصلحة لإسرائيل؛ لأنها هي الأخرى لم تتدخل في الحرب الدائرة في سوريا، على اعتبار إن بقي الأسد يمكنها أن تتعايش معه، كما تعايشت مع والده ومعه، سنين طويلة؛ وإن بقي ضعيفاً يكون أفضل لها؛ وإن استمرت الحرب فيكون أفضل بكثير! وتعرف إسرائيل أيضاً أن تفاهماتها مع الروس تسمح لها بحماية مصالحها، حتى وإن خرجت عن تفاهمات روسية فإن علاقاتها بالغرب وصلاتها به تسمح لها بمشاكسة الكرملين دفاعاً عن أمنها!
إذن فمن له المصلحة؟! بقي في المعادلة إيران، الطرف القوي والفاعل في الساحة السورية. فما هي المصلحة الإيرانية؟
دعمت إيران النظام السوري بكل ما لديها، واستطاعت أن تحميه، وأن تجلب روسيا بعدما وهنت عن حمايته، للحصول على الدعم العسكري، ولتوفير غطاء قانوني في مجلس الأمن. ومع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة، تجد إيران نفسها أكثر الأطراف تضرراً من نهايات الأزمة في سوريا، وتجد نفسها الأقل انتفاعاً؛ لا سيما إذا نجح الروس في فرض شروطهم لحل الأزمة السورية مع الأتراك، وبالتفاهم بطريقة غير مباشرة مع الغرب. كما تدرك إيران أن بقاءها في سوريا لا يحظى بموافقة إقليمية ولا دولية؛ وأن استتباب الأمن يستدعي خروجها، وبالأحرى قطع خطوط تواصلها مع «حزب الله» في لبنان عبر العراق وسوريا. وتعي القيادة الإيرانية أيضاً أن التغير الأخير في الإدارة الأميركية بدخول مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو، المعاديين لها جهاراً، يعني أنها ستتعرض لحصار، ولربما جرها إلى مواجهة مع الغرب لا تقوى عليها، وقد تجبرها على الخروج من سوريا ومن ثم العراق، وبالتالي انهيار نظريتها الاستراتيجية المعروفة بـ«الدفاع المتقدم» القائم على الانتشار خارج حدود إيران لمواجهة أعدائها على أراضي الآخرين.
في الشهر المقبل سيقرر ترمب ما إذا كان سيلتزم بالاتفاق النووي مع إيران، وتعرف القيادة الإيرانية أنها قد تخوض مع أميركا حرباً غير متكافئة، وبالتالي هي بحاجة لحماية دولة كبرى مثل روسيا أو الصين، لكي تتمكن من الصمود في أي مواجهة متوقعة! هذه الضمانة لا يمكن نيلها من الصين لمعرفتها أن القيادة الصينية تهمها مصالحها التجارية قبل أي شيء، وعلاقتها بالغرب أكثر التصاقاً وأكثر فائدة، ولا يمكن التعويل عليها. كذلك تخشى إيران من الرئيس الروسي الذي أصبح السلطان الأوحد في سوريا؛ لكونه يملك الآلة العسكرية الأقوى، ولكونه صاحب حق النقض في مجلس الأمن الدولي. وبما أن بوتين لا يمكنه تسوية الأزمة السورية من دون الحصول على موافقة ضمنية من الغرب، ومن بعض الدول العربية، فإن إيران تعرف أن بوتين قد يضحي بمصالحها حفاظاً على مصالحه الاستراتيجية مع الغرب؛ فبوتين يدرك أن اقتصاده تعرض لنكسة مع بدء العقوبات الأميركية المفروضة على بعض المقربين منه، وعلى 17 شركة روسية، وأن تراجع العملة الروسية المستمر يسبب ضرراً كبيراً للمواطن الروسي؛ لذلك فإن بوتين من مصلحته التقارب مع الغرب وحل المشكلات، ولن يكون حلها ممكناً من دون أن يكون على حساب إيران.
وفق هذه القراءة، فإن إيران لا بد لها من أن تفكر استباقياً، كما تفعل كل الدول اليقظة لحماية مصالحها، وتُسعِّر الخلاف الناشب بين روسيا والغرب؛ وطالما أن الغرب في خلاف متصاعد مع روسيا، فإن إيران بزيادة رصيد الخلاف ستكون أفضل حالاً؛ لأن بوتين سيجد فيها فزاعة لمواجهة الغرب، وستجد إيران فيه حماية لها في مجلس الأمن الدولي، وكذلك في منع أي حملة عسكرية مباشرة ضدها. هذه المصلحة الإيرانية تستدعي تعميق العداوة بين روسيا والغرب، ولا يوجد أفضل من الكيماوي في دوما!
الناظر إلى تداعيات كيماوي دوما، يتأكد له أن روسيا بلعت الطعم، وكذلك الغرب، وأن المواجهة بينهما أصبحت حقيقة. المخرج الوحيد الآن هو قبول روسيا بتحقيق مستقل بإشراف منظمة حظر الأسلحة الكيماوية؛ هذا القبول هو تراجع مقبول لروسيا؛ لكنه يفتح باب الخطر على إيران؛ لأنه إذا ما ثبت أن الأسد وراء هذا الهجوم، أو أن إيران وراءه، فإن النظام السوري وإيران سيكونان وحدهما في عين العاصفة.