ربما قضى الهجوم الذي شنه ترمب منذ أسبوع ضد دول تنتمي غالبية سكانها إلى أعراق غير البيض على الطبقة الأخيرة من القوة الأميركية الناعمة، ويكفي إمعان النظر في ردود الفعل العالمية منذ أن وصف الرئيس الأميركي دولاً أفريقية، وأخرى بأميركا اللاتينية، بأنها «أوكار قذرة».
لقد جاء هذا الوصف ليمثل الحلقة الأحدث في سلسلة من التصريحات العدوانية التي اتخذها رئيس يتسبب بتصرفاته في تقويض جاذبية أميركا وقيمها.
ومن ناحيته، قال جوزيف ناي، الدبلوماسي المخضرم والأكاديمي الذي ابتكر منذ 3 عقود مصطلح «القوة الناعمة»: «لقد شكل مجيء ترمب كارثة على القوة الناعمة الأميركية». ويشير المصطلح إلى قدرة البلاد، على التأثير على آخرين، أو إجبارهم على اتخاذ مسلك معين، عبر سبل دبلوماسية أو قيم أو مساعدات. وينبغي أن تضطلع القوة الناعمة بدور تكميلي للقوة العسكرية أو الضغوط الاقتصادية.
والمثير أن القوة الناعمة ليست بالفكرة الجديدة، أو المقتصرة على حزب ما. وعن ذلك، أوضح ناي أنه «حتى الرومان أدركوا أهمية القوة الناعمة. وريغان وبوش الأب والابن وكلينتون وأوباما - جميعاً أدركوا أهميتها».
ومن ناحيتها، حذرت ميغان أوسوليفان، المسؤولة المعنية بالسياسة الخارجية في ظل إدارة جورج دبليو. بوش، من خطورة إهدار ترمب لمزايا القوة الناعمة الأميركية.
اليوم، تعمد الإدارة إلى تقليص حجم الفيالق الدبلوماسية، في الوقت الذي يتقدم فيه كثير من العاملين بوزارة الخارجية باستقالاتهم، وتعاني الوزارة من كثير من المناصب الشاغرة. كما اقترح البيت الأبيض تقليص المساعدات الخارجية بدرجة كبيرة، رغم إلغاء الكونغرس لاحقاً بعض التخفيضات المقررة.
من ناحية أخرى، يعمد ترمب باستمرار إلى استثارة المشاعر العامة ضد المهاجرين. وبطبيعة الحال، لا ننسى أنه في الصيف الماضي بدا وكأنه يكافئ بين القوميين البيض والنازيين الجدد الذين أشعلوا العنف في تشارلوتسفيل بفيرجينيا وأولئك الذين كانوا يتظاهرون ضد صور الظلم العرقي.
وقد جاءت أفعال الرئيس ترمب بنتائج سيئة. على سبيل المثال، كشف استطلاع للرأي نشره «معهد غالوب» الأسبوع الماضي أنه على مستوى 134 دولة، أبدى 30 في المائة فقط رضاهم عن القيادة الأميركية اليوم، في أدنى مستوى على الإطلاق، وبانخفاض عن 48 في المائة منذ عام مضى، عندما كان باراك أوباما رئيساً.
وأشار استطلاع آخر لمعهد «بيو» العام الماضي إلى وجود فجوة أكبر (كانت روسيا واحدة من الدول القلائل التي ارتفعت بها نسبة الرضا عن الولايات المتحدة). وخلص استطلاع «القوة الناعمة 30» الشهير، الذي يقيم الاستخدام الفاعل للقوة الناعمة، إلى أن الولايات المتحدة خلال عام 2017 تراجعت من المركز الأول إلى الثالث، خلف فرنسا والمملكة المتحدة، بينما تقدمت الصين.
واللافت أن ترمب ومعظم مسؤولي الإدارة لا يبدون اهتماماً بمثل هذه المؤشرات، ويقللون من أهميتها. فعلى سبيل المثال، تفاخر مدير شؤون الموازنة ميك ملفاني بـ«الميزانية المخصصة للقوة الخشنة»، بينما دافعت السفيرة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي عن سجل الرئيس، مستشهدة بـ«موقفه القوي من سوريا» و«توجيهه أخيراً إنذاراً إلى كوريا الشمالية».
والحقيقة أنه بعد الهجوم الصاروخي الأميركي، في أبريل (نيسان) الماضي، ضد قاعدة جوية في سوريا، لا يزال الديكتاتور بشار الأسد في السلطة، ولا تزال روسيا وإيران تتمتعان بنفوذ بالغ هناك. ورغم توجيه إنذار إلى كيم جونغ أون، فإنه للأسف الشديد لا يبدو أنه يعبأ بذلك.
ومن جانبه، حذر وزير الدفاع جيمس ماتيس من أنه من دون المزيد من الدبلوماسيين والدبلوماسية «سنضطر لشراء المزيد من الرصاص». أما المستفيد الأول من هذا التخلي عن القوة الأميركية الناعمة، فهو الصين التي تعمد إلى نشر دائرة نفوذها بمختلف أرجاء العالم.
ومع هذا، لا تزال أميركا تتمتع بميزات ضخمة عن الصين وغالبية الدول الأخرى، بفضل ثقافتها وفنانيها ورياضييها الذين غالباً ما يحظون بالاحترام بمختلف أرجاء العالم.
ومن ناحيته، أعرب جون ناي، المتفائل بطبيعته، عن اعتقاده بأن أصداء المميزات الأميركية ستبقى، وأن حركة المقاومة التي يبديها المجتمع المدني في مواجهة ترمب تحمل رسالة مهمة، وأضاف: «لقد تسبب ترمب في ضرر بالغ، لكن ستبقى الحياة قائمة من بعده، وسوف تستعيد القوة الناعمة عافيتها».
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
7:38 دقيقه
TT
ترمب والقوة الناعمة الأميركية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة