رغم كل الضجة المثارة حول انحسار الغرب وتراجعه، فإنه لا يزال المتحكم بدرجة كبيرة فيما إذا كانت الأسواق الناشئة تزدهر أم تعاني. وكان من شأن تنامي معدل النمو الاقتصادي العالمي هذا العام دفع الأسواق الناشئة نحو أكبر مكاسب لها على صعيد الأسهم والعملات منذ ما يقرب من عقد. كما جاء النهم الذي أبدته الصين تجاه الديون ليعزز موجة التوسع الاقتصادي العالمي. والآن، يقف جيران الصين في مواجهة مخاطرة أي أزمة اقتصادية مفاجئة هناك، بغض النظر عن مدى ضآلة احتمالية حدوث ذلك. (في الواقع يشير الاحتمال الأكبر إلى شروع البلاد في حالة انحسار تدريجي تحت إشراف الدولة).
إلا أنه في عام شهد عدداً هائلاً من التعليقات حول انحسار الولايات المتحدة الأميركية والخلافات المثارة في إطار إجراءات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ربما يبدو من المهم الإشارة إلى أن القوى القديمة لا تزال قادرة على ممارسة قدر كبير من النفوذ مقارنة بالأخرى الجديدة. وتجدر الإشارة إلى أن سحب الاستيعاب النقدي داخل الولايات المتحدة ومنطقة اليورو يدخل مرحلة جديدة عام 2018، وستحمل تداعيات ذلك أهمية أكبر بكثير عن أي خطوات أخرى قد تتخذها الأسواق الناشئة. حتى اليابان، ربما تشرع في تنفيذ إجراءات تخفيف حدة القيود على السيولة.
من جهته، يبدو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي متقدماً عن أي مؤسسة أخرى. وعلى خلاف الحال مع دورات ماضية لمعدلات الفائدة خاصة بالاحتياطي الفيدرالي، تمكنت أسواق ناشئة كبرى مثل إندونيسيا والبرازيل من تقليص نفقات الاقتراض. ويرجع واحد من الأسباب وراء ذلك إلى الانخفاض النسبي للتضخم؛ وكذلك لأن تحركات الاحتياطي الفيدرالي بدت متوقعة. أما المخاطرة الحقيقية فتكمن هنا: ماذا لو شعر الاحتياطي الفيدرالي بالحاجة إلى اتخاذ خطوات أكثر قوة خلال عام 2018 بسبب التراجع الشديد في معدلات البطالة كي تتمكن معدلات الأجور والتضخم من الارتفاع؟
من ناحيتها، من المحتمل أن تتمكن الأسواق الناشئة من التأقلم مع أربعة قرارات باتجاه الزيادة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، بدلاً عن ثلاثة مثلما هو متوقع على نطاق واسع. أما المشكلة، فتتمثل في أن الأربعة لا يتدخل المستثمرون في أسعارها.
من جهته، شرح لويس أوغينز، رئيس أبحاث الأسواق الناشئة لدى «جيه بي مورغان» أن حدوث تحول في الأسعار من الممكن أن يثير موجة من التقلبات فيما يخص أصول الأسواق الناشئة. وربما تبدأ المشكلات في الظهور إذا ما أقدم الاحتياطي الفيدرالي على مزيد من الإجراءات عام 2019.
على الجانب الآخر، فإن البنك المركزي الأوروبي في طريقه نحو إنهاء سياسات التخفيف الكمي في سبتمبر (أيلول)، وإن كان البنك لا يعلن هذا صراحة، وإنما يكتفي بالإشارة إلى البرنامج الحالي البالغ إجمالي قيمته 30 مليار يورو شهرياً يستمر حتى سبتمبر. إلا أنه لا يمكن أن تظهر بالمستوى الكبير ذاته من التفاؤل الذي بدا عليه ماريو دراغي الأسبوع الماضي، ثم تعلن الحاجة إلى مزيد من التخفيف الكمي لما وراء سبتمبر. إن هذه مرحلة تدريجية، ومع انتهائها يغلق فصل في التاريخ النقدي.
من ناحيتها، تبدو اليابان أقرب إلى نهاية إجراءات التخفيف الكمي عن بدايتها، وإن كان من غير المحتمل حدوث أي وقف فوري.
وينبع ثاني أكبر تهديد للأسواق الناشئة من داخل العالم المتقدم. من أبرز الأحداث اللافتة في ديسمبر (كانون الأول) 2017 تقلبات البتكوين، وتسطح منحنى العائد الأميركي. وهنا، يستدعي منحنى العائد الأميركي اهتماماً خاصاً بالنظر إلى أن سجله السابق عمل بمثابة مؤشر على الركود. ومع أن هذا السجل لم يكن مثالياً تماماً في جميع الحالات، تظل الحقيقة أنه ربما ينبئ الآن عن أن ثمة شيئاَ ما ليس على ما يرام. الواضح أنه لا توجد مؤشرات من أي جانب آخر توحي بقرب حدوث ركود. وعليه، ينبه أوغينز إلى أن المنحنى في صورته الراهنة ربما يشير إلى تراجع الإقبال على الإقراض من جانب البنوك؛ الأمر الذي سيقلص بدوره المعروض من الاعتماد ويقيد النمو.
من ناحية أخرى، تتوزع المخاطر السياسية عبر الدول الفردية، وبخاصة الانتخابات، وإن كانت هذه المخاطر ليست على مستوى من المحتمل أن يخلف تأثيراً ممنهجاً. وتأتي الانتخابات المقرر عقدها في المكسيك والبرازيل على رأس القائمة.
في المكسيك، يأتي السياسي الشعبوي اليساري أندريس مانويل لوبيس أوبرادور في صدارة استطلاعات الرأي، في الوقت الذي تثير بعض مواقفه الخوف في نفوس المستثمرين. من جهته، يحاول أوبرادور استرضاء منتقديه. وبالفعل، أجرى زيارات عدة لنيويورك في الفترة الأخيرة، وثمة أقاويل تشير إلى أنه سيعلن هذا الشهر اختياره كارلوس أورزوا وزيراً للمالية إذا ما فاز في الانتخابات.
تجدر الإشارة إلى أن أورزوا سبق له تقلد منصب وزير المالية، ويحظى باحترام على نطاق واسع. وربما يشير اختياره إلى أن لوبيس أوبرادور قد يكون في حقيقة الأمر أقل ثورية عما يخشاه المستثمرون.
ومن يدري، ربما لا تتسم العوامل السياسية بأهمية كبرى في كل الأحوال. على سبيل المثال، منذ 12 شهراً ماضية كانت واحدة من أكثر المخاطر التي يجري الحديث عنها إقدام دونالد ترمب على إشعال حرب تجارية وموت العولمة. بالتأكيد، حال وقوع أي من هذين الأمرين، كانت أصول الأسواق الناشئة لتتضرر بشدة.
في الواقع، من حسن حظ العالم أن البنوك المركزية بالعالم المتقدم هي من يتولى بالفعل إدارة الأمور. ومع أننا نشهد صعوداً للصين والهند، فإنهما لا تملكان القدرة على تطويع العالم المالي لإرادتهما طول الوقت. وحتى هذه اللحظة، لا يزال من غير المجدي لأي جهة من الجهات الدخول في صراع مع الاحتياطي الفيدرالي.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT
الأسواق الناشئة لا تقرر مصيرها
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
