طالعت مئات المقالات حول الرئيس دونالد ترمب والسياسات التجارية، لكن تبقى الأهمية الحقيقية لثورة ترمب الاقتصادية تركيزها على الاستثمار. والواضح أن الهدف الأكبر من وراء هذه الثورة يكمن في تحويل الولايات المتحدة إلى مركز جديد ومهيمن للاستثمار، حتى وإن كان على حساب دول أخرى.
ويعكس مشروع قانون الضرائب الجديد الذي طرحه الجمهوريون ومرره مجلس الشيوخ صباح السبت الماضي، المساعي الحثيثة نحو تخفيض معدل الضرائب على الشركات إلى 20 في المائة. ومن المحتمل أن ينجح ذلك في اجتذاب استثمارات أجنبية ضخمة. وتدفع هذه التخفيضات الضريبية الولايات المتحدة لأن تكون آيرلندا القادمة، لكن بحجم أكبر كثيراً. وتقوم السياسات الأميركية الجديدة على فكرة أن جذب مزيد من الاستثمارات سيحقق منافع اقتصادية كبرى ستعوض تأثيرات الزيادات الضريبية المباشرة التي يخضع لها كثير من الأميركيين.
بصورة أساسية، جرى ابتكار نمط جديد من الاقتصادات المعنية بجانب العرض. المعروف أن النظرية التي سادت في ثمانينات القرن الماضي ركزت بصورة أساسية على الأفراد وخفض الضرائب المفروضة على الدخل ومكاسب رأس المال. وكان من المفترض أن إجراءات الخفض تلك ستزيد من تعبئة قدرة هؤلاء الأفراد وتدفعهم نحو مزيد من العمل والاستثمار. في المقابل، فإن الفكرة السائدة اليوم تدور حول أن القوة الحقيقية للتعبئة تأتي عبر الشركات. وحال إقرار مشروع القانون الضريبي الجديد، فإنه سيكون بمثابة اختبار مهم لهذه النظرية.
اللافت أنه من الممكن النظر إلى مشروع القانون الضريبي والسياسات التجارية لإدارة ترمب باعتبارها تحمل وراءها فلسفة متشابهة، بغض النظر عما إذا كان ذلك مقصوداً. الملاحظ أن واحداً من الإجراءات الرسمية التي اتخذها الرئيس ترمب كان الانسحاب من «الشراكة العابرة للمحيط الهادي». ورغم أنني شخصياً كنت من مؤيدي هذا الاتفاق، مثلما الحال مع غالبية الخبراء الاقتصاديين، فإنه من المهم التعرف على الحجة الوطنية القائمة ضد الانضمام إليه. في الواقع، لا يتعلق الأمر بالتجارة، لأن الاتفاق ما كان ليؤثر على معدلات التعريفات التي يخضع لها الأميركيون كثيراً (بخلاف صادرات اللحم البقري إلى اليابان)، وإنما كان من شأن انضمام واشنطن لهذه الشراكة منحها شهادة اعتراف بفيتنام وماليزيا، وأخيراً عدد من الاقتصادات الناشئة الأخرى باعتبارها مستودعات آمنة للاستثمارات الأجنبية التي تضخها شركات متعددة الجنسيات. ومن الممكن أن يجتذب هذا الأمر بدوره الاستثمارات بعيداً عن الولايات المتحدة.
ويمكن كذلك النظر إلى التوجه الأميركي إزاء اتفاق التجارة الحرة بأميركا الشمالية. في الوقت الراهن، لا يبدو أن واشنطن ستتخلى عن «نافتا» - لكن ستمضي المحادثات بوتيرة بطيئة، بينما تتنامى الشكوك حول الاتفاق. من المحتمل ألا ترتفع معدلات التعريفات مطلقاً، لكن وضع المكسيك كملاذ آمن أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة ستُطرح حوله مزيد من التساؤلات، الأمر الذي قد يدفع بعض هذه الاستثمارات إلى داخل الولايات المتحدة.
ومن جديد، نجد أن الفكرة المحورية من وراء سياسات إدارة ترمب تدور حول تعزيز الاستثمارات المتدفقة على البلاد، وليس تشجيع الصادرات. في الحقيقة، يعلمنا علم الاقتصاد الدولي أن تحقيق توازن بين الحسابات يعني ضرورة أن تصاحب سياسات تعزيز الاستثمارات الأجنبية الواردة إلى الولايات المتحدة عجوزات تجارية أكبر. وتبدو هذه نتيجة ثانوية غريبة، بالنظر إلى الوعود التي أطلقتها حملة ترمب الانتخابية.
من ناحية أخرى، من المحتمل أن تتقدم إدارة ترمب ببعض الشكاوى التجارية ضد الصين قريباً، لكن على المدى الأبعد ستتمثل القرارات الأكثر أهمية في حجم الاستثمارات الصينية التي سنسمح بها داخل الاقتصاد الأميركي، بما في ذلك قطاعات حساسة مثل أشباه الموصلات والذكاء الصناعي.
التساؤل هنا: هل يحمل توجه ترمب بعض الوجاهة الاقتصادية؟ حسناً، في جزء منه نعم. المعروف أن معدلات نمو الاستثمارات الأميركية تباطأت أو تراجعت على مدار عقود، الأمر الذي وصفه البعض بـ«القحط الاستثماري». وعليه، فإن تحفيز الاستثمار قد يعاون في تعزيز التفوق والابتكار وزيادة الأجور، وأخيراً العائدات الضريبية. ومع اختفاء تخمة المدخرات الآسيوية مع تغير الوضع الديموغرافي، فإن التنافس على جذب الاستثمارات الأجنبية قد يصبح أكثر حدة، ويستلزم إجراءات أكثر دراماتيكية.
ورغم ذلك، تبقى الحقيقة أن السياسات الجمهورية لا تسلك السبل المثلى نحو جذب الاستثمارات، ذلك أن توجيه مزيد من الاستثمار إلى رؤوس الأموال البشرية وتقليص التنظيمات وقيود البناء داخل المناطق الاقتصادية الأميركية الكبرى، مثل منطقة خليج سان فرانسيسكو، قد يحقق الاستفادة الكبرى على صعيد تعزيز الاستثمارات - ومع هذا، لا توجد مثل هذه الإجراءات على الطاولة. علاوة على ذلك، بمقدور الولايات المتحدة اجتذاب مزيد من الاستثمارات كدولة عضو في «نافتا» صحية ومزدهرة، وليس كطرف في اتفاق تجارة إقليمي متداعٍ.
الأهم من ذلك، أنني ما زلت مؤمناً بمشروع ما بعد الحرب القائم على فكرة بناء نظام تجارة عالمي يعود بالنفع على جميع الأطراف المشاركة، بقيادة الولايات المتحدة. إلا أن إدارة ترمب للأسف تتخذ خطوات بعيداً عن هذه الرؤية. وتظل الحقيقة أن ثمة ثورة قائمة على صعيد السياسات الاقتصادية أمام أعيننا - لكننا نتجاهلها على نحو يجعلنا عرضة للخطر.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
9:32 دقيقه
TT
ثورة ترمب الاقتصادية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
