شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

لا.. ليست مهزلة!

كلنا يعلم أن الانتخابات الرئاسية التي أعلنها النظام السوري نظمت خصيصا لإعادة انتخاب بشار الأسد رئيسا لسوريا لسبع سنوات أخرى، أي حتى عام 2021، ولهذا يدأب الغرب والمعارضة السورية على وصفها بـ{المهزلة}. وهي {مهزلة} بلا شك لمن ليست له صلة مباشرة بهذه الانتخابات، أي لغير السوريين ممن يراقبون الأحداث عن بعد والذين لن تمسهم العملية الانتخابية ونتائجها، لا من قريب ولا من بعيد؛ وهي مهزلة أيضا للسوريين الموجودين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. لكنها أبدا ليست كذلك بالنسبة للسوريين في المناطق الخاضعة لنفوذ النظام الذين لا يجدون مناصا من المشاركة فيها شاؤوا أم أبوا، لأنها بالنسبة لهم ورطة وربما محنة.
فبينما نتابع على مدار أسابيع، ببرودة أعصاب، تحضيرات النظام للانتخابات الرئاسية، يعيش السوريون في الداخل أياما عصيبة ويتحدثون عن زمن فاصل يؤرخ لما قبل الانتخابات وما بعدها، وكأنه الخط الذي يفصل بين الحياة والموت.
السوري في المناطق الخاضعة للنظام يقف اليوم أمام خيار صعب؛ فإما التوجه إلى صناديق الاقتراع بدافع الخوف، وهذا معناه تأييد نظام دموي لا يعرف الرحمة، الأمر الذي يشعره نفسيا بضعفه وبخزي داخلي، وإما خيار المقاطعة، وهذا قد يكلفه الكثير.
وعلى الأغلب، فإن كثيرا منهم سيلجأ للخيار الأول لكي يكونوا بمنأى عن أي مساءلة وتحقيق من قبل النظام، مثلهم مثل السوريين الذين اصطفوا على مضض في طوابير طويلة أمام سفاراتهم في بيروت وعمان وغيرها (باستثناء فئة قليلة مؤيدة للنظام). هؤلاء مازالوا يعيشون هلعا من يد النظام الطويلة التي ستصل إليهم أينما كانوا، أو هكذا يتصورون، لتبطش بهم إن رفضوا المشاركة، وسط قلق عميق على مستقبلهم وعوائلهم في ظل التقدم الميداني الملحوظ الذي حققته قوات الأسد في الآونة الأخيرة.
أنا لا ألومهم، فما زلت أذكر الاستفتاء الشعبي الذي نظمته للمرة الأولى السلطات العراقية عام 1995 لمواجهة مزاعم الغرب التي كانت تشكك في شرعية رئيس النظام العراقي الأسبق صدام حسين. وزعت عناصر حزب البعث أوراقا على العراقيين تحمل عبارة: {هل توافق على تولي صدام حسين منصب رئيس جمهورية العراق؟} وتحتها كلمتان: {نعم} و{لا}. وكان علينا الاختيار.
المشهد حينها بدا أشبه بـ{مهزلة} لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لأغلب العراقيين الذين عدوه {تراجيديا}. الجدل ملأ كل بيت، خيار المقاطعة لم يكن واردا والبعض رأى ألا فائدة ترجى من التصويت بـ{لا}، طالما أن النظام سيبقى قائما في كل الأحوال. والبعض الآخر تملكه الخوف وبرروا الأمر بـ{أن الله يعلم ما في قلوبنا ويعلم بأننا ضد النظام}. وآخرون لم يشاؤوا أن يعرضوا أنفسهم للخطر والمجازفة بحياتهم. وكثيرون لم يفكروا أصلا في أن يقولوا {لا}. ولم تبق سوى فئة ضئيلة جدا قررت أن تقول {لا}، وكنت أنا وأفراد أسرتي من هذه الفئة. لكن هذا الخيار لم يكن سهلا.
أذكر جيدا كيف كانت أرجلنا ترتجف خوفا ونحن نسير بخطى بطيئة نحو مركز الاستفتاء في مدرسة {17 تموز} للبنين في حي الأعظيمة في {يوم الزحف الكبير} كما أطلق عليه النظام. خرج الناس حشودا إلى مراكز الاستفتاء التي فتحت أبوابها بحضور مراقبين دوليين وصحافيين غربيين. أذكر يدي المرتعشة ونبضات قلبي التي خشيت أن تفضحني وأنا أضع علامة {صح} تحت عبارة {لا}. طويت الورقة الصغيرة ووضعتها بسرعة في الصندوق، ثم غادرنا على عجالة. نشوة انتصار قصيرة بددتها ألف فكرة وخاطرة عن كيف أن بوسع أزلام النظام اكتشاف أمرنا. البعض قال إن أوراق الاستفتاء حملت أرقاما سرية، وآخر اعتقد أن بإمكانهم الوصول إلينا عن طريق بصمات أصابعنا. رافقنا الرعب أياما وأياما وعيوننا تترقب الباب الرئيسي للمنزل خشية أن نتعرض للمداهمة في أية لحظة، حتى أسدل الستار تدريجيا عن الموضوع، في حين لم تأت مغامرتنا {الصغيرة الكبيرة} بأي نتيجة سلبية بحق النظام الذي فاز بنسبة 99.96 في المائة من الأصوات.
النظام العراقي لم يكترث حينها للقلة التي قالت {لا}، لأنه لم يكن مضطرا لذلك، ولو أراد لفعل. لكن الأمر هنا مختلف بالنسبة لنظام الأسد الذي يقاتل اليوم بضراوة بحثا عن الوجود والشرعية.
لهذا أدرك جيدا خيار السوريين إن توجهوا بكثافة إلى مراكز الاقتراع، فلا خيارات متاحة أمامهم بعد أن خذلهم الجميع!