لم يكن الوقت مناسباً لطرح قضية الاستقلال الكردستاني، وإن في صيغة استفتاء داخلي لقياس مستوى رغبة كرد العراق في تقرير المصير باتجاه إقامة دولة مستقلة.
هذا ما يبدو من ردود الفعل الحادّة التي أثارها الاستفتاء من جانب الحكومة العراقية والطبقة السياسية المتنفذة في بغداد، فضلاً عن أوساط شعبية تُرهبها فكرة تغيير خريطة العراق التي ظلّت قلقة وغير ثابتة تقريباً منذ أن رُسِمت في اتفاقية «سايكس - بيكو» قبل قرن من الزمن، إضافة إلى ردّ الفعل المماثل من أكبر قوّتين مؤثّرتين في الوضع الكردستاني، والعراقي عموماً، إيران وتركيا، وعدم إعلان أي قوة دولية تأييدها للخطوة الكردية، أقلّه لجهة توقيتها أيضاً.
من حيث النتيجة لم يُضِفْ الاستفتاء شيئاً إلى ما هو معروف بشأن الحلم الكردي غير المنقطع ليس فقط بتقرير المصير في العراق، وإنما كذلك بتشكيل الدولة الكردية الكاملة التي استثنتها اتفاقية «سايكس - بيكو» من ترتيباتها، فالرغبة في الاستقلال عامّة شاملة لدى كرد العراق. هذا أمر معروف، وفي تسعينات القرن الماضي عندما حظي كرد العراق وحكمهم الذاتي بحماية دولية فعّالة حصل ضغط في الوسط الثقافي والسياسي الكردي باتجاه إعلان الاستقلال، بيد أن القيادة السياسية كانت تُدرك عدم مناسبة الظروف، فجرى كبح الرغبة الشعبية بالاستقلال. وبعد إسقاط نظام صدام وتولّي الأحزاب الكردية السلطة في بغداد إلى جانب أحزاب دينية (شيعية وسنية) وأخرى علمانية، جمعها العمل المعارض في عهد صدام، بدا أن الوقت قد حان باتجاه العمل للسير باتجاه تحقيق الحلم الكردي المتواصل.
الأحزاب الكردستانية لم تعمل كفاية لتوفير الشروط اللازمة لتحقيق الحلم لا داخل إقليم كردستان ولا في بغداد. في الإقليم لم تنجح هذه الأحزاب في إقامة أنموذج الحكم اللازم للانتقال إلى استحقاق الاستقلال، ونعني به أنموذج الحكم الديمقراطي. لم تكن أجهزة السلطة في الإقليم مُوحّدة، ولا العمل السياسي موحداً، فالصراع على السلطة والنفوذ والمال ظلّ قائماً بين الأحزاب الحاكمة في الإقليم، بل حافظ على وتيرة متصاعدة، الأمر الذي قاد إلى تعطّل الآليات الديمقراطية (برلمان الإقليم ظلّ معلّقاً لنحو سنتين، وانتخابات رئاسة الإقليم لم تجرِ في موعدها).
وفي بغداد عمل ممثلو الكرد ضدّ حلم شعبهم، متحالفين مع مَنْ لا يحتملون مجرد سماع تعبير «حق تقرير المصير». لكي يتمتّع الكرد بحقّ تقرير مصيرهم من دون عراقيل كان لا بد من قيام نظام ديمقراطي في العراق، بل يلزم أن يكون هذا النظام راسخاً ومستقرّاً، وأن تغدو الديمقراطية فكرة متأصلة لدى العراقيين من مختلف القوميات، فحقّ تقرير المصير للكرد لا يقرّره الكرد وحدهم في الظروف الراهنة، وإنما سائر العراقيين الذين يتعيّن أن يكونوا مقتنعين بهذا الحقّ حتى لا يحصل ما هو حاصل الآن، وأعني بهذا ليس فقط رفض الاستفتاء والتنديد به، بل كذلك إثارة حملة كراهية ضد الكرد كقومية، بتحريض من قيادات سياسية (شيعية بالخصوص) ومن إيران التي فشل الزعماء الكرد فيما يبدو في تقدير قوّة معارضتها لمشروع الاستفتاء ومقدار نفوذها في العراق، ولن نستثني الدور التركي.
ليس من الواضح كيف تفكّر القيادة الكردية الآن لمواجهة الوضع الذي يبدو أنه لم يكن في الحسبان بصورته الحالية. من المفترض أن هناك إدراكاً بأن ممارسة حق تقرير المصير ليست مقصودة لذاتها، إنّما هي مطلوبة للتمتّع بحقوق وحريات منقوصة، وعليه يمكن العمل وفق مبدأ «ما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه». الذرائع التي قدّمتها القيادة الكردية لتبرير إجراء الاستفتاء صحيحة في مجملها، فالحكومات المتعاقبة على السلطة في العراق منذ 2004 لم تلتزم بأحكام الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة) الساري المفعول حتى مطلع 2006، ولا بأحكام الدستور الدائم الذي غدا ساري المفعول بعد ذلك، بل إن السياسات المُنتهجة كانت تتعارض في أغلب الأحيان مع أحكام الدستورين.
لم يكن الكرد وحدهم مَنْ أضيروا بهذه السياسات، فالعراقيون جميعاً كانوا ضحايا لتلك السياسات. والحقيقة أن القيادة الكردية كان لها دور في هذا لأنها اختارت أن تقتسم السلطة في بغداد وفق نظام المحاصصة غير الدستوري. هذا النظام كان مصدر كل الشرور التي يشكو منها إلى اليوم العرب والتركمان وسواهم أكثر من الكرد؛ فالكرد تمتّعوا طوال الوقت بظروف أفضل مما توفّر للعرب وغيرهم. الآن، مثلاً، بينما تمتلئ شوارع وساحات مدن الوسط والجنوب، بما فيها العاصمة بغداد، بالنفايات وتغرق بمياه الأمطار، فإن شوارع مدن إقليم كردستان وساحاتها تحظى بخدمات النظافة والتشجير والصرف الصحي، وهذا عائد إلى أن مستوى الفساد الإداري والمالي في الإقليم أدنى من مثيله في سائر أنحاء العراق، ما حرم المدن العربية من الخدمات الأساسية.
ثمة خيار متاح للقيادة الكردية الآن لنزع فتيل الأزمة الحالية، هو أن تتلمّس حلاً وسطاً مع بغداد، فالغرض من الاستفتاء قد تحقّق، وهو تأكيد رغبة الأغلبية الساحقة من الكرد في الاستقلال. الحل الوسط هذا لا بدّ أن تتلمسه بغداد هي الأخرى بالتزامن.
وفي كل الأحوال فإن المهمة التالية هي أن يعمل الكرد في الإقليم وبغداد على نحو مختلف عمّا فعلوه طيلة الأربع عشرة سنة الماضية، في الإقليم أن يبنوا تجربة ديمقراطية، وفي بغداد أن يفكّوا تحالفهم مع الأحزاب الإسلامية ويقيموا تحالفات مع القوى غير الدينية. هذا خيار معقول ويحقّق نتيجة، فمقاطعة الأحزاب الكردية لأعمال البرلمان الاتحادي بعد الاستفتاء جعلت البرلمان غير قادر على تمرير قوانين وإجراءات تريدها الأحزاب الإسلامية، ومنها المفوضية الجديدة للانتخابات.
الخيار هو أن يعمل الكرد لصالح قيام نظام ديمقراطي راسخ في الإقليم والعراق، وإلا فسيبقى الاستقلال الكردي حلماً، ربما لمائة سنة أخرى.
TT
الخيار البديل لكرد العراق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة