رغم تأكيدات دول الخليج العربية في خططها التنموية كلها عزمها على تنويع مصادر الدخل، وتعديل الخلل في التركيبة السكانية، فإن معظم هذه الدول لم تحقق أي إنجاز حقيقي في تخفيض الاعتماد المفرط على دخل النفط، أو تعديل التركيبة السكانية، حتى وصل الأمر في الكويت أن كشف مصدر نيابي أن الحكومة أقرت بوجود خلل واضح في التركيبة السكانية، وأن هنالك خطة جديدة لإصلاح هذا الخلل، أبرز معالمها ألا يتجاوز عدد أي جالية خلال الـ20 عاماً المقبلة نسبة الـ20 في المائة من عدد المواطنين، إلى جانب سياسة توطين الوظائف والإحلال.
الوعود السياسية وكثرة الكلام أمر شائع في معظم أوطاننا العربية، ونواب مجلس الأمة الكويتي الذين يدعون إلى توطين الوظائف، وتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية، هم أنفسهم يطالبون الحكومة بخفض سن التقاعد للعاملين بالجهاز الحكومي. فقد وقع 38 نائباً من 50 نائباً على طلب الاستعجال في تقرير اللجنة المالية الذي يدعو إلى تقاعد الرجال إذا بلغت أعمارهم 55 عاماً، والنساء 50 عاماً.
وبذلك تصبح الكويت الدولة الخليجية الوحيدة التي تدعو للتقاعد المبكر، بينما التقاعد في كل دول الخليج يبدأ في سن الـ60، للرجال والنساء.
وهذا هدر للقوى البشرية والأجواء الخليجية، خصوصاً أن دول الخليج، ما عدا السعودية وربما سلطنة عمان، يعانون نقصاً في العمالة الوطنية.
ففي الكويت مثلاً، يشكل المواطنون 25 في المائة من السكان، ونسبة المواطنين في سوق العمل لا تتعدى 16 في المائة (الوضع في دولة الإمارات ودولة قطر أسوأ من الكويت). إذن، لماذا تخفض دول الخليج سن التقاعد لمواطنيها وهي تعاني الإفراط في العمالة الأجنبية؛ السبب الحقيقي لاتخاذ هذه السياسات سياسي؛ ففي الكويت، تعود مطالبة النواب إلى التقاعد المبكر للمواطنين، رغم رفض الحكومة لهذا المقترح، إلى حقيقة أن النواب يريدون توظيف أبناء قبائلهم أو طوائفهم أو أقاربهم أو أبناء مناطقهم الانتخابية، بهدف كسب الشعبوية في مناطقهم الانتخابية أو بين قبائلهم أو طوائفهم.
السؤال مرة أخرى: لماذا تتكالب دول الخليج على تقاعد مواطنيها في سن مبكرة، مع أن هذه الدول تعاني إفراطاً في العمالة الأجنبية؟ الإجابة هي أن الدول الخليجية النفطية الريعية سابقاً تحاول كسب رضا المواطنين في بلدانهم. في كل دول العالم المتحضر، يبدأ التقاعد في سن الـ70 عاماً، والنساء في سن الـ65؛ فالدولة هناك تحتاج إلى تراكم الخبرات، خصوصاً في الأعمال الإنتاجية المفضلة.
لدينا في الخليج معظم المواطنين يعملون في القطاع الحكومي، لأن العمل في هذا القطاع سهل بسيط، والامتيازات كبيرة، ورواتبهم عالية مقارنة بغيرهم من غير المواطنين، والإجازات كثيرة، والوظيفة مضمونة، سواء التزم المواطن في ساعات العمل أم لا.
ومن المفارقات العجيبة في الكويت أن موظفي الحكومة لا يلتزمون بساعات العمل، حيث كثرت أيام التغيب والتسرب وقت الدوام، حتى وصلت نسبة الغياب من الوظيفة الحكومية إلى 40 في المائة، مما دفع بالحكومة لفرض البصمة على موظفي الحكومة، صباحاً وعند انتهاء الدوام بعد الظهر، ولكن بعض المدرسين ونقابات العمال يهددون بالإضراب عن العمل إذا لم يتم سحب البصمة للدوام.
من وجهة نظري أقول إن سياسات معظم دول الخليج، في ما يتعلق برفاهية مواطنيها ومحاباتهم، خلقت جيلاً جديداً من الشباب الخليجي المهمش، الذي لا يكترث ولا يهتم بالدراسة أو العمل.
الحقيقة المرة التي لا يريد أحد في الخليج الاعتراف بها هي أن الدولة الخليجية النفطية الريعية ليست بحاجة إلى عمل المجتمع، فالدولة الغنية بالمال تستطيع استقطاب العمالة من كل أرجاء المعمورة... بمعنى آخر: دولة قوية ومجتمع ضعيف في الخليج، وهذا الوضع لن يتغير حتى تنخفض أسعار النفط أكثر، وتزداد عجوزات الحكومة؛ وهنا ستبدأ بفرض الرسوم والضرائب على المواطنين والمقيمين، وهذا أمر طبيعي متبع في كل دول العالم، لكن المواطنين في الدول الديمقراطية يدفعون الضرائب والرسوم، ويطلبون من الحكومات إثبات مساهمتهم في إدارة الدولة، والمواطنون في الخليج موالون لأوطانهم وحكوماتهم، وكل المطلوب اليوم إدارة الدولة إدارة عقلانية سليمة لا تهدر الإمكانيات المالية والبشرية.
TT
حول واقعية الخطط التنموية في الخليج
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة