حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

نهاية الخبرة!

حجم الانفتاح الحاصل على الناس لكل ما له علاقة بالتقنية الحديثة بات مذهلاً وداعياً للدهشة على أقل تقدير، ومع هذا الانفتاح العظيم جاءت «شلالات» العلوم والمعرفة، وأصبحت في متناول العامة بشكل غير مسبوق، وبات بالتالي من الممكن الحصول على مدخل لأي نوع من العلوم بصورة سريعة ولحظية. ولكن هذه الإضافات المجتمعية تسببت في تكوين حالة من النرجسية والشوفينية المقززة، بالإضافة إلى الإحساس بفوقية معرفية خداعة، ونتائج ذلك تظهر على أسطح الحوارات التي أصيبت بالشلل التام.
فاليوم بضغطة واحدة على أزرار، يستطيع المطلع أن يحصل على معلومات طبية تؤهله لأن يدلو بدلوه كطبيب متمرس، أو معلومات اقتصادية أو دينية أو هندسية أو قانونية. وبالتالي في عالم مفتوح ومسطح، كل الأصوات حتى ولو كانت الأغرب والأكثر نشازاً تطلب حصتها في أن يسمع لها، وأن تأخذ نصيبها كاملاً، وأن يؤخذ ما تقوله بعين الاعتبار وبمنتهى الاحترام والجدية أيضاً. كل هذه الظاهرة كانت ضحيتها الأولى «الخبرة». فالإحساس القوي والزائف الذي يأتي مع «المعرفة الفورية» يأتي معه شعور مواز بأن الخبرة باتت مسألة لا داعي لها.
انفتاح الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) بالشكل الهائل، قضى على دور الخبراء، بالإضافة إلى تغير نموذج الأعمال في الكليات والجامعات، ليصبح لها أسلوب أشبه بالمؤسسات، وتعتمد فيها على رضاء العميل، مع عدم إغفال الأثر المهم والسلبي الذي لعبه تحول المنظومة الإخبارية من وسيلة تثقيف ونقل معلومات وخبر، إلى وسيلة ترفيهية في المقام الأول.
ومع الانتشار العريض للمعلومات والمعرفة، كان المتوقع والمنتظر أن ينتج عن ذلك مجتمع أكثر معرفة وثقافة ودراية؛ إلا أن الواقع المرير يقول إن النتيجة لذلك ما هي إلا ظهور أنصاف جهلة وأنصاف متعلمين، عليهم نفحات من الغضب المسلح بأنصاف المعلومة، وبالتالي يشككون في كل من هم، حقيقة وواقعاً، أعلم منهم.
وهذا الشعور مع تعاظمه واستقراره في العقل وفي الوجدان، يولد قناعة مطلقة بأنه لا يوجد أحد أعلم من أي أحد آخر. وفي توقعات سوداوية يعتقد بعض المحللين أن هذه قد تكون بداية لانهيار الميزة التنافسية للثقافة والحضارة الغربية، التي تعتمد على الخبرات التراكمية بشكل جوهري وأساسي في البنية التحتية الثقافية.
ومؤخراً انتهيت من قراءة أحد أهم الكتب التي وقعت بين يدي منذ سنوات طويلة، «موت الخبرة» للكاتب الأميركي توم نيكولس. وهو يثير فيه كثيراً من النقاط الخطيرة التي تهدد السوية الاجتماعية، لأهمية الخبرة في سيرة الأمور الحياتية، ويعتبر ما يحدث الآن فوضى وشعبوية مدمرة وضوضاء مزعجة، ويرى أن هذه المسألة تنعكس على الحياة السياسية بالدرجة الأولى، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية، وقبل ذلك في قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي.
مع انحسار وشبه انقراض لقيمة الخبرة التراكمية في المجتمعات، ستأتي القرارات والمشروعات والسياسات والآراء الهشة والضعيفة، وسينعكس ذلك على أخلاق الناس في الشارع، وزيادة جرعات الغضب، فنصف المتخلف الذي يعتقد خاطئاً أنه بات خبيراً متمكناً، لن يقبل أبداً أن يتم التشكيك في صحة ودقة معلوماته.
في القرآن الكريم، وتحديداً في سورة الفرقان، يأمرنا الحق (سبحانه وتعالى): «فاسأل به خبيراً»، كتأكيد على أهمية الخبرة. وتكرر في موقع آخر: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».
دخلنا في زمن أنصاف الجهلة وأنصاف المتعلمين، الذين يعتقدون أنهم الأعلم، والمشاهد الفوضوية التي أمامنا تؤكد أننا نتاج ذلك.