دخلت الأزمة السورية الآن، وبشكل لا جدال فيه، مرحلة جديدة، وفيها تحولت الأولويات المتغيرة للدول الخارجية نحو خلق مجموعة مؤقتة من شروط ما قبل التسوية. ومنذ التدخل العسكري الروسي في سبتمبر (أيلول) من عام 2015، ظلت الديناميات الجيو - سياسية في تطور مستمر على مسار تقويض جهود المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد.
وبعد عامين، لم يبد النضال المناهض لنظام الأسد واهناً أو أكثر ضعفاً عما كان. وبصرف النظر عن البيانات الدقيقة التي قد يطلع عليها المرء في هذه الأيام من جانب المسؤولين في واشنطن، أو لندن، أو باريس، أو أنقرة، لا تزال حقيقة الأوضاع تشير إلى أن أياً من هذه الحكومات تسعى الآن إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد، ولا حتى أنها تعتبر هذا الأمر من الممكنات.
ويعد هذا الواقع، بصفته الجزئية، انعكاساً لحقيقة اليوم، ومفادها أن بشار الأسد لم يشعر يوماً بأنه أكثر قوة ومقدرة على البقاء على رأس السلطة من هذه الأيام. غير أنه يعكس في الوقت ذاته حالة الإنهاك التي بلغها ما يُطلق عليهم مسمى مجموعة «أصدقاء سوريا». وبأكثر قدر من الصراحة، فهذا الواقع هو انعكاس أيضاً لفشل جهود المعارضة - في التوحد، وعزل الجهات المتطرفة، أو مجرد تفادي الفساد والاقتتال الداخلي. ومثل هذه العوامل مع إضافتها إلى غيرها، قد أنجبت ديناميكية تشيع فيها مزاعم مسؤولي الحكومتين الأميركية والبريطانية بـ«هزيمة المعارضة» أو «موت القضية».
وفي الوقت الراهن، فإن مناطق خفض التوتر المتفاوض عليها في العاصمة الكازاخية آستانة والمضمونة على أرض الواقع من قبل روسيا وتركيا وإيران تبدو وكأنها أقيمت لتبقى، غير أن هناك عملية ذات أولوية وأهمية باتت تستحق المزيد من العناية والاعتبار بين الولايات المتحدة وروسيا. قضى كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية مثل مايكل راتني وبريت ماكغورك، الشهور المطولة في مفاوضات مباشرة مع الجانب الروسي، بشأن مناطق خفض التوتر في جنوب سوريا، ومناطق التهدئة في شرق البلاد، وآفاق مستقبل القضايا السياسية من شاكلة الإصلاح الدستوري، وإعادة هيكلة الجهاز الأمني السوري، إلى جانب آفاق اللامركزية الإدارية في البلاد. ولعل من المفاجآت التي تنتظر الجانبين الروسي والأميركي على حد سواء، أن هذه المحادثات يقال إنها كانت مثمرة بدرجة كبيرة للغاية. إذ إن اتفاقية تخفيض التوتر في الجنوب السوري، على سبيل المثال، قد جرى التفاوض بشأنها على وجه التفصيل الدقيق عبر أسابيع طويلة وعلى مستوى مسميات الشوارع في تلك المناطق.
وبالنسبة لبعض صناع السياسات في الولايات المتحدة وللكثيرين من داخل الإدارة الأميركية، فإن احتمالات تحسن علاقات العمل مع الجانب الروسي تعد من الفرص الناجزة للاستغلال، ومن المجالات السانحة لتخليص السياسة الأميركية من قضية الأسد المثيرة للمزيد من الإزعاج. ومقولة «اتركوا مشكلة الأسد للروس» من العبارات التي ترددت كثيرا بين المسؤولين الأميركيين في اجتماعاتهم المغلقة في هذه الأيام. وقد أصبحت روسيا الآن أكثر جدية وإيجابية في المفاوضات، مما يعكس إيمانها الخفي بفوزها في هذا الرهان. وفي الأثناء ذاتها، فإن حقيقة المشاركة الأميركية المكثفة في الوقت الحالي مع الجانب الروسي الأكثر إيجابية تعكس الإنهاك الأميركي، فضلاً عن الرغبة الأميركية في الاعتماد على روسيا للتقليل، قدر الإمكان، من المكاسب الإيرانية في الساحة السورية.
وعلى الرغم من أن روسيا وإيران لا تتقاسمان نفس الرؤى طويلة الأمد إزاء سوريا، فإن أهدافهما المؤقتة فيها لا تزال على نسق واحد وإلى حد كبير. وعلاوة على ذلك، ومن الزاوية الإيرانية، فإن النصر قد تحقق على أرض الواقع السوري - وليس هناك من أحد، ولا حتى روسيا نفسها، يمكنه اقتلاع ذلك بعيدا على أيادي طهران. ورغم ذلك، فإن اتفاقية تخفيض التوتر في الجنوب السوري تستخدم كبالون اختبار لما قد تتمخض عنه الأحداث في خاتمة المطاف لصياغة الآلية الأميركية الروسية الأوسع نطاقاً لإدخال الواقع السوري إلى فترة انتقالية من الاستقرار المنظم.
ووفقاً للتقارير الصادرة أخيرا، ومن منظور التخطيط الأميركي، فإن تلك الفترة الانتقالية هي التي ستشهد إقصاء المعارضة السورية، وفقدانها السيطرة الحقيقية داخل دمشق وحمص وما حولهما من الأراضي، إلى جانب أجزاء من ريف حلب الغربي وشمال غربي إدلب (ولا سيما جسر الشغور). ومما هو مفترض، أن الولايات المتحدة لا تنوي أن تفعل أي شيء يُذكر للحيلولة دون وقوع هذه الخسائر لدى المعارضة. ومن هذه النقطة فصاعدا سيقتصر وجود المعارضة السورية على جنوب البلاد ومحافظة إدلب. والكثيرون اليوم في واشنطن وغيرها يعتبرون إدلب كمثل القضايا الخاسرة - فهي الملاذ الآمن لتنظيم القاعدة حتى الوقت الراهن والتي تستحق قدرا أكبر من الاهتمام من زاوية مكافحة الإرهاب ليس أكثر، وليس لحماية قوات المعارضة هناك.
وهذه هي المرحلة التي تتصرف الولايات المتحدة وحلفاؤها في الشرق الأوسط بطريقة شديدة الخطورة. فعن طريق متابعة المصالح قصيرة الأمد وتناول أعراض الأزمة السورية وليس أسبابها، فإننا نتغاضى عامدين عن العواقب الوخيمة طويلة الأمد التي تؤدي إلى تفاقم المسببات الجذرية. واقتصار جهودنا واهتمامنا على محاربة تنظيم داعش لن يسفر بحال عن اجتثاث الجذور الأولية لنمو «داعش» في المقام الأول، وإتاحة إدلب للقصف العشوائي الروسي لن يؤدي إلى تدمير تنظيم القاعدة هناك، أو حتى يوهن من خطابها الدعوي المتطرف. كما أن خنق السبل في وجه المعارضة جنوبا لن ينجم عنه أبدا استسلامها لبشار الأسد. وعلى نحو مماثل، فمن السذاجة السياسية المطلقة أن نتوقع من المفاوضات الأميركية - الروسية أن يتمخض عنها إضعاف الدور الإيراني في سوريا، في حين أن إيران هي من تسيطر الآن على 160 ألف عنصر من الميليشيات السورية والأجنبية داخل البلاد، وتسيطر روسيا فقط على 30 ألف جندي نظامي سوري ليس أكثر.
أقامت الولايات المتحدة وشركاؤها في المنطقة حصصا جغرافية في الأزمة السورية. ولتأمين المصالح الأميركية على المدى البعيد، فلا بد من حماية هذه الحصص، ومنحها الضمانات الكافية والمجال المطلوب للنمو والازدهار. وخلق وتعزيز هذه المناطق المؤقتة الخاضعة لسيطرة المعارضة يعد الفرصة الوحيدة والسانحة لضمان أن نظام الأسد لن ينال فرصته لإعادة بسط الهيمنة السياسية والأمنية من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، كما كان الأمر من قبل. وإن كنا نعمل بجدية على مسار الفترة الانتقالية، فإن السلطة اللامركزية لمجالس المعارضة المحلية الممثلة اجتماعيا والمتمتعة بالمساندة والحماية الدولية قد تكون من أفضل السبل لتعزيز دور أميركا الفاعل في تحديد مصير ومستقبل التسوية طويلة الأمد هناك. وإن ابتعدنا تماما عن دعم وإسناد قوى المعارضة، فإننا نتنازل وبسهولة لأولئك الذين يضمنون المزيد من عدم الاستقرار في البلاد، وبما يُلحق الضرر بالمصالح الأميركية طويلة الأمد. وعلينا ألا ننسى أبدا أننا لا نتعامل مع الجماعات المسلحة فحسب - بل إننا نتلاعب بأرواح الملايين من المدنيين الأبرياء كذلك.
ولإفساح المجال لنمو وازدهار المناطق المؤقتة الخاضعة لسيطرة المعارضة وجعلها من المقترحات ذات الجاذبية لصناع السياسات، فإن الفصائل المسلحة المعارضة في سوريا، والمجالس المدنية، والجهات السياسية المنفية للخارج باتت تواجه في الآونة الأخيرة أكبر التحديات التي واجهت الثورة: إثبات قدرتهم على المرونة والقيام بدور الشركاء الجديرين والمستحقين للمزيد من الدعم والإسناد. قد تكون جماعات المعارضة في شمال سوريا قد أدركت الآن أن الترحيب بتنظيم «جبهة النصرة» المتطرف كحليف، كان سلاحا ذا حدين، ولكن ذلك الأمر قد فات أوانه منذ خمس سنوات الآن. وإن كان مقدرا إنقاذ محافظة إدلب من وحشية ائتلاف القوى المؤيدة لنظام الأسد، أو من أن تتحول إلى «طالبان» السورية المحاطة بالأسوار، فيجب على المعارضة أن تتخذ وعلى نحو عاجل سبيلا بديلا نحو الأمام. وإن بعضا من عناصر المعارضة السورية تحظى اليوم بموقف يمكنها من أن تكون شريكا جديدا وموثوقا به في الحرب الأميركية المستمرة ضد تنظيم داعش. أما الآخرون الذين ليسوا كذلك لزاما عليهم تهيئة أوضاعهم على وجه الاستعجال وفق الظروف والمستجدات الراهنة والعمل بإيجابية وبشكل بناء على حماية ما لا يزالون يسيطرون عليه اليوم أو يمثلونه.
في الوقت الراهن، نبدو وكأننا ضمن مجال يدفع فيه اللاعبون السوريون الخارجيون الأزمة السورية نحو مرحلة جديدة، بيد أنها ليس من الضروري أن تتفق أو تلاءم مصالح الولايات المتحدة المعلنة. فإيران على مسافة خطوات من تحقيق هيمنتها التي طال انتظارها على بلاد الشام والمشرق العربي، وأصبح تنظيم «حزب الله» أقوى بكثير مما كان عليه الأمر قبل انتفاضات الربيع العربي، وتهيأت الظروف تماما لعودة النسخة الثالثة والجديدة من تنظيم داعش، في حين أن تنظيم القاعدة قد عمل على تكييف استراتيجيته وصورته للاستفادة وبأمثل الطرق، من نوعية انعدام الاستقرار التي يبدو أنها سوف تواصل حزم قبضتها القوية على آفاق الشرق الأوسط لسنوات كثيرة مقبلة. ويبدو أن المجتمع الدولي يتنازل وببطء غريب عن نفوذه في سوريا، إلى أولئك الذين يضمنون المزيد من القمع، والعنف، والاضطهاد، والدماء، وانعدام الاستقرار. وإن توافرت لدى لجنة التحقيق الأممية في سوريا ما يكفي من الأدلة لمحاكمة بشار الأسد على جرائم الحرب، فلا ينبغي أن يكون الغرب من يوفر له الحماية مما يجب أن يكون مصيره الحتمي في خاتمة المطاف.
* زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط
7:52 دقيقه
TT
الأزمة السورية تدخل مرحلة جديدة وخطيرة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة