طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

«الست» على خريطة الأستاذ

للنجومية في عالمنا العربي أحكام؛ النجم يسيطر على كل المفردات المتعلقة بالعملية الفنية، والكل ينتظره وينصت إليه لتصبح طلباته أوامر. لدينا مثلاً في الدراما عادل إمام، لا أحد من الممكن أن يتواجد في الاستوديو إلا بعد أن يحصل على تأشيرة الزعيم. لا أتحدث فقط عن ترشيحات الممثلين التي هي حق أصيل للمخرج، ولكن حتى عامل الشاي والمثلجات يختاره أيضاً عادل.
عندما سألت الموسيقار كمال الطويل لماذا توقفت عن تلحين الأغاني العاطفية لعبد الحليم منذ منتصف الستينيات؟ قال لي: «تملكت عبد الحليم روح الزعامة، حتى في البروفة أثناء وجودي يقود ويوجه الفرقة الموسيقية، نبهته أكثر من مرة ولكنه لم يتراجع، فتوقفت عن تكملة المشوار معه».
نادراً ما نجد من يتمرد على تلك القوانين المجحفة، لدينا قطعاً استثناءات، مثلاً الموسيقار الكبير محمود الشريف، الذي مرت أمس ذكرى رحليه رقم 27، كان الشريف حالة خاصة جداً في مشوار أم كلثوم الفني والعاطفي، وثقت عنهما كتاباً أطلقت عليه (أنا والعذاب وأم كلثوم)، مستعيناً بالأحاديث التي خصني بها، الخطوبة التي ارتبطا بها أعلنت عام 1946، لم تدم سوى بضعة أيام، أما الزواج السري غير المعلن قبلها فلقد تجاوز عامين.
سألت الشريف: هل أنت نادم أنك لم تلحن لأم كلثوم بينما تلاحق على صوتها كبار الملحنين، حتى من أجيال جاءت بعدك مثل الموجي والطويل وبليغ؟ أجابني: «لم يكن هدفي أن تُغني ألحاني، بقدر ما هو الجديد الذي أضيفه إليها. المسرح الغنائي هو حلمي الأثير. أحيى سيد درويش المسرح، بينما تلميذه وصديقي العزيز محمد عبد الوهاب، شيعه إلى مثواه الأخير، وتفرغ فقط لتلحين الأغاني الفردية. اتفقنا أنا وأم كلثوم على أن نعيد إحياء المسرح، وبالفعل أطلقت عليه مسرح (ثومة)، ورسمت على الورق ملامحه، ولم يكن يعنيني أن أنفرد بالتلحين لأم كلثوم، ولكن كانت هناك بالضرورة ألحان لكل من زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي؛ كان حلما مشتركاً، وجاء الانفصال ليوقف كل شيء، حتى أغنية (شمس الأصيل) التي كان قد أجرى مع أم كلثوم بروفات معها على العود، ألقي بالشريط من شرفة منزله، بعد أن مزقه واحتفظ فقط بكلمات الأغنية بخط أم كلثوم، التي سألته عن رأيه في اللحن بعد أن أسندته أم كلثوم لرياض السنباطي؟ أجابني: قطعاً رائع».
هل كانت أم كلثوم زعيمة في حياتها الشخصية؟ قال الشريف: «إطلاقاً»، وعندما سألها مصطفى أمين في الحوار الذي نشره على صفحات «أخبار اليوم» بعد إعلان الخطوبة عن حقيقة استمرارها في الغناء أو توقفها، أجابت بالحرف الواحد: «الأمر لمحمود وما يريد». بالطبع هذه الكلمات العفوية من أم كلثوم لم تمر ببساطة، بل أثارت غضب الرأي العام الذي اكتشف فجأة أن صوت أم كلثوم ليس ملكية عامة، بل هناك رجل واحد من الممكن أن يقول لها توقفي فتتوقف، هذه هي الكلمة التي أثارت غضب الملايين من عشاق «الست»، ودفع الشريف الثمن.
يبقى لي أن أقول إن الشريف غنّى من تلحينه أهم الأصوات مثل: ليلى مراد، وشادية، وصباح، وفايزة، ووردة، وعبد المطلب، وكارم، وقنديل، وعبد الحليم وغيرهم. وكانت ألحانه لكل هذه الأصوات هي تميمة النجاح الجماهيري، وظلت أم كلثوم مشروعه وحلمه المجهض الذي أراد لها أن تُصبح صوتاً على خريطة أنغامه يقتحم به مجال المسرح الغنائي، لا أن يُصبح هو مجرد لحن على خريطتها!.