نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

علينا مواجهة حقيقة الديمقراطية

في كتابها الجديد الصادر بعنوان «الديمقراطية في الأغلال: التاريخ العميق لخطة اليمين المتطرف السرية لأميركا»، كتبت نانسي ماكلين أن زميلي كاتب الرأي في «بلومبيرغ»، تايلور كوين من خلال إثارته التساؤلات حول المؤسسات السياسية الأميركية، يعمد إلى خلق «كتاب إرشادات... لكيفية شن هجوم من الطابور الخامس ضد الديمقراطية». في المقابل، ومثلما أوضح روس روبرتس، زميل معهد هوفر، فإن الفقرة التي كتبها كوين اقتطعت من سياقها.
وينبغي التنويه بهذا الأمر لأن كوين لطالما كان من المدافعين المتحمسين عن الديمقراطية. إلا أنه في الوقت ذاته لا يخفى على أحد أن كوين يحمل بداخله استعدادا دائما للتفكير على نحو نقدي بخصوص نقاط الضعف المحتملة في النظام الأميركي. في الواقع، يفعل كوين ذلك ليس رغبة في مهاجمة القيم الديمقراطية، وإنما للدفاع عنها. وإذا ما كانت لدينا رغبة حقيقية في معاونة الديمقراطية على البقاء، يتعين علينا التفكير بواقعية وبراغماتية في نقاط الضعف بها، بحيث نتمكن من توجيه مواردنا إلى التغلب عليها وعلاجها.
الحقيقة أنه من الخطير للغاية الانغماس في حالة الشعور بالزهو والرضا عن نمط الحكومة الذي توصلنا إليه. ورغم أن ثمة دلائل إحصائية تشير إلى أن الأنظمة الديمقراطية تحقق ميزة متواضعة فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي، فإن هذا يبقى مجرد توجه اقتصادي عام، وليس دليلاً دامغاً على التفوق الاقتصادي. لقد حققت الكثير من الدول الاستبدادية بالفعل نمواً اقتصاديا سريعاً، من ألمانيا في القرن الـ19 إلى كوريا الجنوبية وتايوان مطلع ثمانينات القرن الماضي. علاوة على ذلك، فإن ثمة احتمالا أن تكون علاقة الارتباط المتواضع بين الديمقراطية والنمو قائمة على عامل واحد ضخم - الولايات المتحدة، التي شكل تحالفها ورعايتها ميزة اقتصادية كبرى أمام الكثير من الدول الديمقراطية خلال القرن العشرين.
وفي الوقت الراهن، ثمة تساؤلات تطرح حول الديمقراطية من الداخل والخارج. ويجدر بنا التساؤل هنا حول ما إذا كانت هذه التساؤلات نابعة من مسألة أن بعض التحديات الاقتصادية الخاصة جرى تجاهلها على نحو ممنهج خلال العقود الماضية.
لقد أدرك الاقتصاديون منذ فترة بعيدة أن الديمقراطية لا تؤدي دوماً إلى نتائج اقتصادية ناجحة. وقد أثبت العالم الاقتصادي كينيث آرون الحائز جائزة نوبل أنه ليس بإمكان أي نظام سياسي إعطاء جميع مواطنيه ما يرغبون فيه في جميع المواقف. وبطبيعة الحال، فإن الأنظمة السياسية على أرض الواقع لا تقترب حتى من الوضع المثالي، ما يجعل هذه النتيجة التي خلص إليها آرون أكاديمية بعض الشيء.
إلا أن النظرية الديمقراطية تشير كذلك إلى مشكلة أكبر - الصعوبة التي تجابهها الأنظمة الديمقراطية في توفير السلع العامة. المعروف أنه من بين الأدوار الأساسية للحكومة توفير الأشياء التي تعود بالنفع على المواطنين بخلاف تلك التي يدفعون مباشرة مقابل الحصول عليها. ومن بين الأمثلة على ذلك الدفاع الوطني والبنية التحتية والأبحاث الأساسية. أيضاً، يعتبر التعليم والرعاية الصحية من السلع العامة، نظراً لأن العمل على وجود سكان صحيين ومتعلمين يخلق منافع واسعة النطاق للجميع. ونظراً لأن الأسواق الحرة عادة ما لا توفر ما يكفي من هذه الأمور، فإنه يتعين على الحكومة التدخل لتحسين مستوى مثل هذه السلع وتوفيرها.
من ناحية أخرى، فإنه عند بناء بنية تحتية، لا يخالج الأنظمة الاستبدادية القلق إزاء الإضرار بالبعض القليل مقابل خدمة الكثير. على سبيل المثال، لم تتردد الصين حيال نقل 1.2 مليون شخص من ديارهم لبناء سد خلال العقد الأول من الألفية الجديدة. لحسن الحظ، هذا الأمر غير ممكن الحدوث داخل الولايات المتحدة، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أنه غالباً ما تجد الشركات الأميركية نفسها مضطرة للمنافسة في مواجهة خصوم استبداديين يملكون القدرة على استغلال بنى تحتية رفيعة المستوى جرى بناؤها بتكاليف زهيدة.
أيضاً، أحياناً يكون من الصعب تحمل تكاليف السلع العامة، ذلك أن الناس يختلفون فيما بينهم من حيث القدرة على السداد وحجم الفوائد التي يجنونها من السلع العامة. وفي العادة، تعتمد الدول على أنماط مختلفة من الضرائب من أجل وضع هذين الأمرين في الاعتبار - ضرائب وقود لتمويل بناء طرق سريعة، وضرائب دخول يتحمل الأثرياء العبء الأكبر منها. ومع هذا، فإن أصحاب النظريات الاقتصادية خلصوا إلى أنه في ظل الظروف العامة، لا يمكن لنظام ضريبي محدد توفير كثير من النفع لجميع مواطنيه. وينتهي الحال بالحكومة أمام خيارين: إما عدم توفير ما يكفي من سلع عامة أو مواجهة عجز بالموازنة.
ومع هذا، يبقى بديل، ذلك أنه من الممكن تحقيق توازن في الميزانية وتوفير المستوى الأعلى من السلع العامة، لكن فقط إذا ما أجبر بعض الأثرياء على دفع ضرائب ضخمة للغاية. إلا أن حجم الضرائب المطلوبة لتحقيق ذلك على درجة من الضخامة قد تدفع الكثير من الأثرياء للفرار من النظام بأكمله.
عبر الانتقال لدولة أخرى أو إسقاط الحكومة. وتفسر هذه النتيجة الرياضية ميل الكثير من الأثرياء نحو الأفكار التحررية.
وربما تفسر كذلك السبب وراء الديون الحكومية الضخمة، التي تحملها الكثير من الأنظمة الديمقراطية على كاهلها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»