عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

قطر وتحالف الغادرين

الغدر خلقٌ إنساني مقيتٌ، لا يستجيزه ولا يفعله إلا ناقص الخلق عديم المروءة منزوع الفضائل من الأفراد والجماعات والأحزاب والدول، فهو لا يعمل إلا في حال ثقة طرفٍ ما في الغادر ومن ثمّ طعن الغادر له من حيث لا يحتسب.
العدو لا يغدر لأنه ظاهر العداوة، ولكن الذي يغدر هو المأمون الذي أُعطِي ثقةً لا يستحقها، وتاريخ الغدر السياسي في منطقتنا في العصر الحديث انطلق مع جماعة الإخوان المسلمين حيث هو مبدأ أساسيّ لدى الجماعة ومنهجٌ مستقرٌ لدى تنظيماتها السرية والمعلنة وسياسةٌ ثابتةٌ لها منذ عقودٍ.
العلاقات والوشائج التي تربط قطر بالجماعة طويلة الذيل في التاريخ المعاصر وواسعة الانتشار في المنطقة والعالم، أما في التاريخ فهي تعود لنكبة الإخوان المسلمين منتصف الخمسينات، وانتقال عددٍ منهم للعديد من الدول العربية كلاجئين أولاً ومن ثم كمؤسسين لتنظيماتٍ فرعيةٍ للجماعة، وهكذا كان في قطر، حيث وصلت إليها طلائع الجماعة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، مع عبد البديع صقر ويوسف القرضاوي وغيرهما، وقد وصل التحالف بين قطر و«الإخوان» لكل تنظيمات الجماعة حول العالم.
وقد نقل هؤلاء الخطاب الديني الإخواني المتماهي مع السياسة والمعجون بها، والقائم في أحد مبادئه على الغدر كمنهجٍ متبعٍ وثابتٍ، إلى قطر؛ الغدر بالبلد الذي يؤويهم بإنشاء التنظيمات فيه وتجنيد مواطنيه ومن ثم الغدر بالآخرين، وهو ما جرى تقريباً في كل بلدٍ دخلته عناصر الإخوان المسلمين الهاربة من مصر وسوريا والعراق وغيرها إلى دول الخليج.
نشأ حمد بن خليفة في كنف الإخوان المسلمين وتأثر بهم، وكسب عنهم سياساتهم ومنهجهم الانقلابي التدميري، وكانت أولى بشائر ذلك انقلابه على والده في منتصف التسعينات، ومن ثم تحوّل هذا النهج إلى سياسةٍ ثابتةٍ تصدرها قطر لكل أشقائها وحلفائها في دول الخليج وفي الدول العربية وحول العالم.
لأكثر من عشرين عاماً ظلّت هذه السياسة سياسةً ثابتةً لقطر، ويمكن استحضار ما جرى خلال عقدين وربطه بسهولةٍ بمبدأ الغدر، فلولا الغدر ما كان لقطر ذكرٌ ولا شأنٌ، لا في السياسة ولا في الإعلام ولا في أي مجالٍ آخر، وقام تحالف الغادرين بالعمل على تقويض الاستقرار السياسي في البلدان العربية أملاً في نشر الفوضى التي قد تفضي لسيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة في أكثر من بلدٍ، وبالتالي تتويج قطر كلاعبٍ سياسي يفوق حجمه الحقيقي بمراحل.
تحالف الغادرين تكوّن من الإخوان المسلمين ابتداءً وتأثر بهم تيار الخمينية السياسية في إيران، وتفرع عن هذين العنصرين كل جماعات وتنظيمات العنف الديني والسياسي في كل العالم الإسلامي، وكانت لحظة انضمام قطر لهذا التحالف لحظةً فارقةً بما أنها تعتبر دولةً خليجيةً وعربيةً، وأنها دولة غنية تستطيع الصرف بلا حسابٍ على كل إرهابيي العالم.
في أقل من شهرٍ ونصفٍ الشهر تقريباً، ومنذ بدء الأزمة مع قطر بمقاطعة الدول الأربع؛ السعودية والإمارات ومصر والبحرين لها، يكفي التأمل في حجم الفضائح والفظائع التي تم نشرها والإعلان عنها حتى الآن لمعرفة كيف يمكن الوثوق بسلطةٍ سياسيةٍ تحمل كل هذا الإرث من الغدر السياسي غير المسبوق في المنطقة.
تخبط صانع القرار القطري تخبطاً كبيراً منذ بدء الأزمة، ومع رفضه للوسيط الكويتي فقد عرض تقديم كل شيء على أي وسيطٍ آخر، فعرض فتح خزائنه الاستخباراتية على ألمانيا، ووقع على مذكرة تفاهمٍ مع وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، وهو على استعدادٍ للغدر بتحالف الغادرين نفسه والتضحية ببعضهم في سبيل النجاة من هذه الأزمة الخانقة التي حشرته في زاوية لا يجد منها مناصاً، وبدا مستعداً للتنازل عن كل سيادته بشكلٍ شاملٍ، ولكن ليس للوسيط الكويتي ولا للدول الشقيقة.
بمجرد إطلاق الدول الأربع لمقاطعة قطر بدأت مؤشراتٌ واضحةٌ لانحسار الإرهاب وتنظيماته وميليشياته من جهةٍ، وانطلقت عمليات عبثيةٌ لإثبات الوجود من جهةٍ أخرى، فتمّ طرد «داعش» من الموصل وتتم محاصرته في سوريا، وهزيمته في ليبيا، وبدأت ميليشيا الحوثي تترنح أمام انتصاراتٍ ثابتةٍ للتحالف العربي في اليمن، تزامناً مع عملياتٍ إرهابيةٍ في مصر وأوروبا يتضح ضعفها وقلة حيلتها مقارنةً بالعمليات السابقة.
سياسة الدول الأربع تتجه لأن تكون سياسةً ثابتةً ومستقرةً في ظل تخبط السياسة القطرية تجاهها، حسبت قطر وحسب معها حلفاؤها أنها ستكون سريعةً وقصيرة الأمد، فراهنت على التحمّل لفترةٍ معينةٍ ريثما تهدأ الأمور وتنفرج الأزمة وعجزت عن فهم تصميم وإصرار الدول الأربع على القضاء نهائياً على منبع الإرهاب والتخريب القطري، وها هي هذه المقاطعة تتحول مع الوقت لتصبح استراتيجيةً باردةً وطويلة الأمد.
هل يعني هذا إغلاق كل الأبواب في وجه صانع القرار القطري؟ الجواب هو: لا، بالتأكيد، فباب حل الأزمة مفتوحٌ على مصراعيه، ولكنه في الرياض فقط، وليس في أي من الأبواب التي لم تفتأ القيادة القطرية تطرقها واحداً تلو الآخر، وهو واضحٌ في المطالب الثلاثة عشر الملغاة لعدم استجابة قطر لها، وفي إثبات تغيير شامل وكاملٍ في السياسات التخريبية القطرية.
تغيير السياسات والاستراتيجيات لأي دولةٍ تغيير كبيرٌ يجبر صانع القرار على مراجعاتٍ كريهةٍ ومؤذيةٍ وتراجعاتٍ تقلب الموازين وتعيد تصميم المشهد السياسي والموقف منه، وقد مرت دولٌ كثيرةٌ بمثل هذه التحديات على طول التاريخ وعرض الجغرافيا وكانت نقطة التحول مع كل ألمها مكسباً ضخماً لبناء مستقبلٍ مشرقٍ، ولكنها احتاجت على الدوام لصانع قرارٍ يحسن قراءة المتغيرات ويبرع في استكشاف المستقبل، ويمتلك جرأة اتخاذ القرار وشجاعة تغيير المسار، وهو ما تبدو القيادة القطرية عاجزةً عنه حتى الآن.
العدو الكاشح خيرٌ من الصديق الغادر، وأي خيارٍ ستتخذه القيادة القطرية لن يؤثر بأي شكلٍ في الدول الأربع، فالغادر يفقد كل قيمته حين يتم اكتشافه، والغادر المكشوف عاجزٌ عن الخيانة، ومن هنا فإن مكانة قطر في تحالف الغادرين قلّت قيمتها بشكلٍ قياسي بمجرد انطلاق الأزمة ووضع السياسات القطرية تحت أنظار المجتمع الدولي.
أخيراً، فقد فشلت القيادة القطرية في قراءة مرحلة ما بعد قمم الرياض الثلاث، وهي مرحلة الحرب الحقيقية ضد الإرهاب، وهرعت إلى إيران، وسَعَت لتقديم دعمٍ مادي غير محدود لجماعات الإرهاب قبل أن تنكشف، ولكن مقاطعة الدول الأربع جاءت سريعاً، وكشفت أوراق الدوحة.
[email protected]