نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

الأميركيون والهوس الروسي

يعاين الأميركيون كثيرا من القصص الإخبارية حول الروس هذه الأيام، الأمر الذي يرجع بصورة أساسية إلى محاولات روسيا التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بجانب نماذج أخرى لمحاولات التدخل في الشؤون الداخلية.
وقد دفع ذلك الكثير من الأميركيين للاعتقاد بأن روسيا تشكل الغريم الرئيسي للولايات المتحدة الأميركية على الساحة العالمية، وأن رئيسها فلاديمير بوتين يتميز بالعبقرية.
بيد أن إلقاء نظرة أقرب يكشف أنه على الصعيد الاقتصادي، لم يبل بوتين بلاءً حسناً. ورغم نجاحه في تجنب التعرض لأزمة صريحة، فإنه لم يبذل جهوداً تذكر لتناول نقاط الضعف الاقتصادية المحورية التي تعانيها بلاده.
على سبيل المثال، تجمد النمو الاقتصادي الروسي منذ قرابة عام 2012. ورغم تجمد الدخل، لم تختف تماماً المكاسب التي تحققت خلال العقد الأول من الألفية الجديدة ـ فلم تعاود روسيا الانزلاق نحو حالة الخلل الوظيفي التي عانتها خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ومع تنامي ضعف الاقتصاد، تركت روسيا الروبيل يتراجع منذ عام 2014. مع التقلبات الشديدة التي تعرضت لها العملة منذ ذلك الحين.
وعبر الاستخدام الماهر لأدوات السيطرة الرأسمالية غير الرسمية وخفض قيمة العملة بحكمة، نجح بوتين وإدارته في تجنب وقوع أزمة عملة دون استنزاف احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
وعليه، فإنه في الوقت الذي لا تبدو الصورة وردية بالنسبة لروسيا، فإنها ليست مظلمة كذلك، وإنما نجحت البلاد في تحقيق قدر من الاستقرار في مواجهة انخفاض أسعار النفط.
ومع هذا، ينبغي ألا يشعر قادة روسيا بالرضا حيال هذا الأمر، ذلك أنه سبق أن أخفت فترات من الاستقرار من قبل مشكلات هيكلية تحولت لأزمات مؤلمة لاحقاً. وما تزال التوجهات طويلة المدى تبعث على القلق بالنسبة لروسيا.
من بين المشكلات القائمة سيطرة الدولة الزاحفة نحو الاقتصاد. وكشف تحليل نشره مؤخراً سيمون دجانكوف من معهد بيترسون للاقتصاديات الدولية إلى أي مدى جرت إعادة تأميم الاقتصاد الروسي بعد الفوضى التي ضربت أركانه في تسعينات القرن الماضي.
بينما كان نصيب المصارف التجارية الخاصة من مجمل الأصول الروسية قرابة 70 في المائة، فإنه بحلول عام 2015 انكمشت هذه النسبة إلى النصف. وبحلول منتصف 2015، كان قرابة 55 في المائة من الاقتصاد الروسي في يد الدولة، مع عمل 20 مليون عامل لدى الحكومة بصورة مباشرة.
من جانبه، يعزو دجانكوف بعضا من هذا التغيير إلى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية ضد روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا. ونظراً لحرمانها من التمويل الغربي، تحولت الكثير من الشركات الروسية بأنظارها نحو الحكومة. إلا أنه بغض النظر عن الأسباب، يبقى التحول نحو الصناعات الحكومية أمراً سيئاً، ذلك أن المؤسسات المملوكة للدولة عادة ما تعاني مشكلات خطيرة فيما يتعلق بالحوكمة ـ مع نقص الشفافية ووجود محاباة سياسية وغياب الانضباط عن الأسواق المالية. ورغم بعض التحسنات التي طرأت عليها، ما تزال المؤسسات الروسية المملوكة للدولة أقل إنتاجية بكثير عن نظيراتها الخاصة.
وتتمثل مشكلة روسيا الرئيسية الثانية في الاعتماد المفرط على نشاطات استخراج الوقود الحفري. ومثلما أشار الكاتب ليونيد بيرشيدسكي في مقال رأي له في «بلومبيرغ»، فإن قرابة ثلثي صادرات روسيا حالياً تأتي من النفط والغاز. ويرى بعض المحللين أن 70 في المائة من إجمالي اقتصاد البلاد على صلة بالنفط.
ويعد هذا أمراً سيئاً لأسباب عدة. أولاً: أنه يخلق مخاطرة اقتصادية كبرى، فعندما تتراجع أسعار النفط يتهاوى الاقتصاد الروسي. في العادة، تتسم أسعار النفط بتقلباتها الشديدة. والمؤكد أن اعتماد اقتصاد بأكمله مثل الاقتصاد الروسي على أمر متقلب مثل أسعار النفط العالمية يضع روسيا في مواجهة خطر مستمر. ومن المحتمل أن يكون التراجع في إجمالي الناتج الداخلي بالنسبة للفرد في روسيا عام 2015 ناجما عن انحسار أسعار النفط. ومع تحول الغاز الطبيعي سريعاً إلى سوق عالمية، فإن أسعاره سوف تتحدد على نحو متزايد على أساس عوامل تقع خارج نطاق سيطرة روسيا.
وإذا كانت المخاطر قصيرة الأجل مشكلة، فإن التغييرات التكنولوجية طويلة الأجل تحمل مخاطرة أكبر، ذلك أن التطور السريع في بطاريات السيارات مع تنامي التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة يقلل على نحو متزايد من أهمية السلعة الروسية الأساسية بالنسبة للاقتصاد العالمي. وهذا تحديداً السبب وراء حرص دول مثل السعودية على تنويع اقتصادياتها.
ويجب أن تثير التهديدات طويلة الأمد الكامنة وراء التأميم الاقتصادي والاعتماد على النفط قلق القادة الروس، لما تحمله من تشابهات لا تبعث على الطمأنينة مع السياسات التي سادت سبعينات القرن الماضي، عندما قاد ليونيد بريجنيف اتحادا سوفياتيا قوياً ظاهرياً، لكنه متصلب وراكد في حقيقته.
في السبعينات، مثلما الحال اليوم، بدت روسيا رائعة تماماً على الساحة الدولية، خاصة أن خسارة أميركا في فيتنام ألحقت الضعف بها، في وقت كانت تمثل الغريم الرئيسي للاتحاد السوفياتي، علاوة على أن صعود «أوبك» أعاق الاقتصاديات الغربية، في وقت كان يزيد باستمرار من إجمالي الناتج الداخلي السوفياتي.
ورغم أن بوتين أشاد بقيادة بريجنيف، فإن عليه النظر إلى سبعينات القرن الماضي كتحذير، ذلك أن الانتصارات الخارجية والمشكلات التي تعانيها الولايات المتحدة لا ينبغي أن يشتتا أنظاره بعيداً عن بناء اقتصاد على دعائم متينة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»