د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

حركة النّهضة بين الإنكار وفك الارتباط

تمثل علاقة حركة النهضة بتنظيم الإخوان المسلمين حجر أساس المشكل القائم بينها والنخب التونسيّة المعارضة لوجودها ولمشاركتها في الحكم. فلا يكاد يخلو تلاسن أو مشاحنات ساخنة بين وجوه حداثية وأخرى إسلاموية من إثارة هذه المسألة. والملاحظ أن السياسة التي انتهجتها حركة النهضة مع هذه القضية «التهمة» هي الإنكار، الشيء الذي زاد في توتر الجدل حول هذه المسألة، وأسهم في تأجيج الشك حول طموحات الحركة.
مؤخراً أي قبل خمسة أيام تقريباً أعلن القيادي عجمي الوريمي عن تصريحات تناقلتها مختلف وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، ومثلت محور حديث في وسائل التواصل الاجتماعي. وجاء في هذه التصريحات أنّ حركة النهضة تونسيّة وليست لها علاقة تنظيمية مع جماعة الإخوان المسلمين، مبرزاً أنّه كان لمؤسسي الحركة تعاطف مع الإخوان في نهاية الستينات، وأن العلاقة بين النّهضة والإخوان تتمثل في استفادة حركة النهضة من أدبيات حركة الإخوان في فترة زمنية ما.
وفي الحقيقة تبدو لنا مشكلة هذه التصريحات ليست في مصداقيتها، بل في عدم دقتها وحرصها على القفز على تفاصيل تاريخية، ممّا يجعل من الإنكار الجزئي حاضراً بقوة ومانعاً لتمرير المعلومات الصحيحة.
أظن أنَّ الاعتراف بعلاقة حركة الاتجاه الإسلامي التي كانت تسمى في مرحلة العمل السري بالجماعة الإسلامية، أكثر فائدة من الإنكار. فهو الذي يُؤسس لعلاقة أفضل تقوم على الوضوح والصدق في مقاربة تاريخ الحركة. بل إنّ استعراض تاريخ الحركة منذ نواتها الأولى سيأخذنا إلى ما قبل الصلة والانضمام إلى التنظيم الإخواني، حيث إنه قبل أن تسلك الحركة الإسلامية في تونس، نهج المعارضة الصريحة باسم الصحوة الإسلامية ومقاومة ما كانت تصفه التبعية والتغريب، انطلقت منذ بدايات الستينات وتزامناً مع بعض الإجراءات العلمانية البورقيبية، نشأت الحركة الإسلامية في 1969، وذلك بتوجه دعوي تبليغي أخلاقي، يكشف عن تأثر بجماعة الدعوة والتبليغ الهندية والباكستانية الانتماء، حيث زار من بنغلاديش الشيخ «روح قسط» تونس برفقة مجموعة مبشراً بمبادئ هذه الحركة التي على رأسها «عدم الانشغال بما لا يعنينا». ولعل معاينة نهج هذه الجماعة، يُفسر إلى حدّ كبير سبب عدم انشغال الحركة الإسلامية التونسية في بداياتها بالسياسّة. وهي الخاصية التي جعلت النظام آنذاك لا يُوليها مخاوف جادة، حيث كان شيوخ الزيتونة أمثال حسن الخياري وأحمد بن ميلاد ومحمد الزغواني يقدمون دروساً في المساجد تحت عنوان «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». في هذه الأثناء، انخرط السّادة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وإحميدة النيفر في جمعية «المحافظة على القرآن والأخلاق الفاضلة»، وتمكنوا من تقديم محاضرات والفوز في انتخابات الهيئة المديرة للجمعية القرآنية، ذات الأعضاء الزيتونيين.
ولكن صدور مقال في جريدة «لومند» الفرنسية، يُلمح بتشكل نواة حركة إسلامية في كنف السريّة، أيقظ حفيظة السلطة آنذاك، فعمدت إلى إجبار أعضاء الجمعية الزيتونيين على طردهم.
وفي عام 1972 انعقد ما يسمى «اجتماع الأربعين» بدار سلامة بمنطقة مرناق، فكان تحديد منهاج الحركة الإسلامية وإطلاق تسمية «الجماعة الإسلامية». وقد انتهى الاجتماع بانتخاب راشد الغنوشي أميراً للجماعة وإحميدة النيفر نائباً له وصالح كركر نائباً لنائب الأمير. ولمّا كان المنهج الإخواني واضحاً في مناقشات اجتماع الأربعين، فإن الجماعة الإسلامية بتونس انضمت عضواً إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ذلك أنه من القرارات المهمة التي حسم في شأنها مؤتمر الأربعين نذكر القرار القاضي بأن الحركة الإسلامية بتونس تمثل تعبيراً محلياً عن التيار العالمي للإخوان المسلمين. وأصبحت الحركة الإسلامية عام 1974 عضواً في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
فالنشأة الفعلية التي انطلقت بعد الاجتماع التأسيسي المذكور تؤكد الارتباط بالإخوان تنظيماً ومنهاجاً حيث تمت تلبية الدعوة للانضمام للتنظيم الأم، وانتشرت آنذاك بين صفوف الحركة كتابات حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان، وكشفت أدبيات الحركة ووثائقها وبياناتها التأسيسية ومؤتمراتها عن ارتباط بالفكر الإخواني وتبني صريح لمبادئ الحاكمية والجاهلية وشمولية الإسلام.
بل إن الصراحة تقتضي الاعتراف أيضاً بأن الانشقاق الحدث التاريخي المنعرج في تاريخ الحركة والذي عرفته فيما بعد في منتصف السبعينات، إنّما كان مرّده بشكل أساسي وأولي العلاقة بالفكر الإخواني، إذ بدأت «الجماعة الإسلامية» تعرف نوعاً من الانشقاق اتضح بشكل صريح ومعلن في أواخر السبعينات. فظهر من رحمها تيار «الإسلاميون التقدميون» الذي كان في توجهاته ورؤيته وخياراته الأقرب إلى التّونسة.
إذن نستنتج ممّا سبق أن إنكار العلاقة بتنظيم الإخوان بشكل قطعي قابل للتفنيد، إذ الحركة عرفت فيما بعد النشأة الإخوانية مخاض التونسة، وهو مخاض لا يمكن إنكاره وهو الذي أسهم في تجذيرها سوسيولوجياً في المجتمع التونسي. وهي في الحقيقة لم تُغلب التونسة إلا في مرحلة ما بعد الثورة، حيث كان لا بدّ من الانخراط في المنجز التحديثي للدّولة الوطنيّة التّونسيّة للمشاركة في الانتخابات وفي الحكم وفي كتابة الدستور.
يبدو لي أنّ الخطاب الأكثر مصداقية اليوم بالنسبة إلى حركة النّهضة، هو الذي يجمع بين الاعتراف الشجاع والإعلان الدقيق حول مواطن فك الارتباط مع فكر الإخوان، مع العلم أن الأكثر أهمية ليس العلاقة التنظيمية مع الإخوان بل العلاقة الفكريّة.