نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

الطابع المطلق لحرية التعبير

لقد كان يوماً مهماً بالنسبة إلى حرية التعبير في المحكمة العليا الأميركية؛ فقد قام القضاة من خلال حكمين متتابعين بتحديد شروط التعديل الأول في حقبة دونالد ترامب والإنترنت. في أحد الحكمين سددت المحكمة ضربة للتصحيح السياسي، حيث أكد الحكم أن مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية لا يحق له رفض تسجيل أي علامة تجارية مهينة أو جارحة. وفي الحكم الثاني أعلنت المحكمة أن مواقع التواصل الاجتماعي مساحة عامة شاسعة للتعبير عن كافة التوجهات والآراء.
أوضحت القضيتان الطابع المطلق لحرية التعبير، الذي أصبح معبرًا عن استقامة القضاء خلال السنوات القليلة الماضية. ويضع الحكمان معًا إطارا لحرية التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لن تتولى الحكومة العملية التنظيمية بنفسها، بل سيتم فرض أي شكل من أشكال الضوابط من جانب الشركات الخاصة المسؤولة عن تلك المواقع ذاتها.
وحظيت قضية العلامة التجارية «ماتال ضد تام» بتغطية أكبر قبل إصدار الحكم، ومن أسباب ذلك أنها تتضمن مسألة رفض تسجيل العلامة التجارية لـ»واشنطن ريدسكينز».
وبحسب رأي القاضي صامويل أليتو، رأت المحكمة أن تسجيل الحكومة لكل العلامات التجارية باستثناء تلك التي تزدري «أشخاصًا، سواء كانوا أحياء أم أمواتاً، أو معتقدات، أو رموزاً وطنية، أو تحتقرها أو تشوهها»، يعد تمييزًا غير قانونيًا.
وعبّر أليتو في جزء من الحكم، الذي حظي بأربعة أصوات فحسب، عن النقطة الفاصلة الحاسمة في هذا الحكم بالنسبة إليه قائلا: «الإهانة مسألة وجهة نظر». ما كان أليتو يعنيه هو أن الحكومة لا يحق لها أن تزعم بشكل شرعي أن رفض تسجيل علامة تجارية لفرقة تحمل اسم «المنحرفون» كان في إطار وجهة نظر موضوعية، لأنه يستهدف الإهانة الموجهة ضد الجميع.
ويعد هذا موقفًا مثيرًا للجدل على الصعيد الثقافي بشأن الخطاب المسموح به على الساحة العامة. مع ذلك إنه يمثل نهج وعقيدة المحكمة العليا بشكل سليم.
من المؤكد أن هناك معايير قانونية مختلفة تحكم أماكن العمل والجامعات، وسيستمر الجدال حول ماهية الخطاب الجارح المسبب للانزعاج المسموح به في تلك الأماكن، وكان أليتو يحدد موقفه، وموقف غيره من المحافظين الآخرين، لكن الساحة العامة أمر مختلف.
وقد يتبين أن قضية مواقع التواصل الاجتماعي، باكنغهام ضد كارولاينا الشمالية، أكثر أهمية على المدى الطويل. كان موضوع القضية هو قانون أصدرته الولاية يمنع المنحرفين جنسيًا من استخدام أي مواقع للتواصل الاجتماعي التي يُسمح للأطفال باستخدامها. وقد وافقت المحكمة العليا بإجماع الآراء على أن هذا القانون يعد انتهاكًا لحقوق المنحرفين جنسيًا في حرية التعبير. وأثنى القاضي أنتوني كينيدي، في رأي الأغلبية، على قلق الإنترنت بوجه عام، ومواقع التواصل الاجتماعي بوجه خاص. وأشار إلى العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، ومجموعة من الأنشطة الإنسانية التي يمكن ممارستها على تلك المواقع. كذلك علّق قائلا إن عدد مستخدمي موقع الـ»فيس بوك» أكبر من عدد سكان أميركا الشمالية بثلاث مرات. لم يقف كينيدي عند هذا الحد أو يكتفي بهذا القدر، حيث أوضح أن ثورة المعلومات لا تزال في الطريق واصفًا الإنترنت بالـ «متقلب».
واتفق أليتو مع كل من رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، والقاضي كلارنس توماس، في القول إنه رغم موافقة كينيدي على عدم دستورية القانون، تمادى كثيرًا في عدم إخضاع محتوى مواقع التواصل الاجتماعي لأي ضوابط حكومية. لقد أراد أليتو تحديداً إفساح المجال لسنّ قانون أكثر دقة وتركيزاً يمكنه على سبيل المثال إبعاد المنحرفين جنسيًا عن مواقع المواعدة المخصصة للمراهقين.
مع ذلك، كما شعر أليتو، سوف تواجه تلك اللوائح التنظيمية والضوابط صعوبة في تجاوز تدقيق المحكمة العليا بعد حكم باكنغهام. يرى كينيدي، وزملاؤه من الليبراليين بوضوح مستقبل حرية التعبير في إطار نطاق الإنترنت الأوسع.
المفاجئ في الحكمين معًا هو ما يمثلانه من معنى لتنظيم حرية توجيه الإهانات والإساءة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو أن الحكومة لن تنخرط في الأمر. ما يعنيه الحكمان عمليًا هو أن الشركات، التي تملك مواقع التواصل الاجتماعي وتتحكم فيها، سوف تكون هي المسؤولة عن وضع قواعد التعبير وتحديد طبيعته. سوف يتم تأويل التعديل الأول لحماية عالم الـ»فيس بوك»، و»تويتر»، وباقي مواقع التواصل الاجتماعي من خلال فرض القواعد الخاصة التي يختارونها.
قد تتخذ الأمور منحى آخر مختلفاً في أوروبا، حيث تتجه الحكومات الأوروبية إلى دفع شركات الإنترنت العملاقة نحو اتباع اللوائح والقواعد التنظيمية الخاصة بالتعبير داخل البلاد.
على الجانب الآخر، يرسم التعديل الأول، والملكية الخاصة لمواقع التواصل الاجتماعي، في الولايات المتحدة عالماً جميلا جديدًا من حرية التعبير.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»