ديفيد بروكس
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

هل الراديكالية ممكنة اليوم؟

شهد عام 1917 وما حوله حالة من الحماس الراديكالي. كان الصحافيون في مجلة «ذي نيو رببليك» يتزعمون التقدمية، والتي دعت إلى إحداث تحول في أسلوب تنظيم الاقتصاد وعمل الديمقراطية. أما مجلة «ذي ماسيز»، فعمد نشطاء يساريون من خلالها إلى تأجيج ثورة اشتراكية عالمية. وخارج أبواب البيت الأبيض، كان راديكاليون من أنصار حق المرأة في التصويت يتظاهرون ويصيغون على مهل الحركة النسوية الحديثة.
في تلك الأيام، كان لدى الناس أمر واحد يتوافر لدينا بكثرة الآن: الحاجة إلى التمرد على الواقع القائم ـ وفي حالتهم، كانت الحاجة إلى التمرد موجهة ضد وحشية التحول إلى الصناعة وقسوة النهج الفيكتوري وجمود الفكر الأكاديمي.
وكانت أمامهم أيضاً سلسلة من الآليات التي ظنوا أن بمقدورهم الاعتماد عليها في إحداث التغيير. وكان بداخل الناس إيمان عميق بالمجلات الصغيرة باعتبارها الأداة المثلى لتغيير الثقافة والعالم. كما حمل الراديكاليون بداخلهم إيماناً بالطبقة العاملة وإمكانية بناء تحالف بينها وبين المثقفين لبناء حركة مشتركة في مواجهة تركز الثروة.
في ذلك الوقت، تمتع الكثيرون بعبقرية صياغة قيم والرهان بحياتهم بأكملها على جهودهم لتطبيق هذه القيم. وقد كنت أطالع للتو كتاب جيرمي مكارتر الجديد والملهم «شباب راديكاليون»، والذي يتناول حياة خمسة من هذه الشخصيات الراديكالية: والتر ليبمان، راندولف بورن، ماكس إيستمان، أليس بول وجون ريد.
وقد اشترك الجميع في إيمانهم بإمكانية إحداث تحول في وقت قريب. ومن بين هؤلاء، كان ريد المغامر الحالم الذي ترك جامعة هارفارد وغامر باقتحام بؤرة العمل والنشاط أينما كان ـ سواء إضرابات نقابية أو ثورة روسية. أما بول فكان الناشط الراديكالي العنيد الذي تخلى عن النوم ورغد العيش وواجه عن طيب خاطر السجن دفاعاً عن المطالب بتوسيع نطاق من يحق لهم التصويت. ومع ذلك، تجلت العبقرية الحقيقية في كل من ليبمان وبورن، اللذين قدما دروساً مستفادة بخصوص نمطين مختلفين من الراديكالية. من جهته، تميز ليبمان بعقلية منظمة وقد كرّس جل اهتمامه لدراسة العلوم الاجتماعية، وآمن بالمركزية والتأميم، وضرورة السماح لأفضل العناصر فكراً بإدارة البلاد. وخلال حياته، تنقل من الصحافة الاشتراكية إلى صفوف إدارة وودرو ويلسون.
أما بورن، فتميز بشخصية حالمة أكثر، فقد نشأ داخل مجتمع بروتستانتي أنغلو ـ ساكسوني أبيض منغلق على ذاته، ولم يتمكن من الاطلاع على عالم أوسع إلا بعدما التقى بمزيج كوزموبوليتاني ثري في نيويورك يضم أعراقاً متباينة. في ذلك الوقت، كانت حركة الهجرة قوية وانطلق نقاش حاد حولها، أعرب بورن عن سعادته بأن «أميركا في طريقها للتحول من مواطنة، إلى هوية عابرة للحدود والمواطنة تضم». وقد آمن بورن بالتغيير اللامركزي ـ التغيير الروحي الذي ينبع من ثورة في الضمير. وجاء القرار المحوري عندما اقتربت الولايات المتحدة من دخول الحرب العالمية الأولى. من جانبه، أيد ليبمان الحرب، بناءً على اعتقاده بأنها ستتطلب تخطيطاً فيدرالياً أكبر، وبالتالي تسرع وتيرة التغيير الاجتماعي. في المقابل، شعر بورن بصدمة بالغة حيال هذا التفكير الذرائعي الذي يقبل بوحشية الحرب. وأوضح مكارتر أن: «بورن أكد أنه ما من خيار يدعم حرباً سيتمكن يوماً من تحقيق قيمة مثالية». في ذلك الوقت، انقسم الراديكاليون ما بين براغماتيين على استعداد للعمل داخل النظام، وحالمين سعوا للعمل من الخارج نحو احتمالات أكبر. وعمدوا جميعاً لنشر قيمهم ودفعوا أميركا قدماً. وبعد أن ظلوا مخلصين للقيم التي يدعون إليها، مات أغلبهم يعانون الصدمة والسخط. على سبيل المثال، فَقد ريد إيمانه بالاتحاد السوفياتي، بينما فقد ليبمان ثقته بويلسون في أعقاب فرساي. أما بورن، فمات مهمشاً بلقب حسير أثناء تفشي وباء الأنفلونزا عام 1918. ومع أن بورن كان الراديكالي الأقل أهمية منذ قرن مضى، فإن إيمانه القوي باللامركزية والعالم الكوزموبوليتاني المتعولم يجعله الأكثر أهمية اليوم. في الواقع، لقد أخطأ غالبية النشطاء الراديكاليين الذين ظهروا بالقرن العشرين عندما وضعوا ثقتهم بطليعة ثورية تتمثل في مجموعة صغيرة ترى أبعد وتعرف أفضل. أما بورن، فكان محقاً في إدراكه أن السبيل الأمثل نحو التغيير يقوم على الحوار التدريجي القائم على روابط القومية والإنسانية. واليوم، هل سنقدم على وضع القوة الثورية في يد الدولة أو المثقفين أم المتخصصين بالعلوم الاجتماعية أم الطبقة العاملة أم أي طبقة أخرى؟ لا، فاليوم لم نعد في عام 1917، ومع هذا، يبقى في إمكاننا إعادة إحياء التزامنا إزاء بناء عملية حوار سياسي تدريجية في تحركها وراديكالية في غاياتها ـ هذا هو الرهان الأكثر أمناً.
* خدمة {نيويورك تايمز}