محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

بين المفكر والفيلسوف

كلنا نفكر لكن هذا لا يجعلنا فلاسفة. معظمنا يتفلسف لكن هذا بدوره لا يجعله فيلسوفاً.
«نظريتي الخاصة تقول إن العالم لن يتأثر بمخاطر البيئة، والطبيعة سوف تحسن الدفاع عن نفسها». هذا تفلسف وليس فلسفة، بصرف النظر عن خطأ أو صواب ما يعتقده القائل.
برتراند راسل عرّف الفلسفة بكلمات موجزة. كثيرون منا يمشون في اتجاهات الريح محاولين إيجاد تعريف لها، لكنه اكتفي بثلاث كلمات: «منهج منطقي - تحليلي». وذهب فيما بعد ليضع كتباً في كل العلوم الإنسانية والفكرية الممكنة؛ لديه كتب عن العلم، وكتب عن المجتمع، وكتب تبحث في أمور الحرب والسلم، بل وكتب تتحدث وتفسر ماهية السعادة.
غير أن مؤلفاته هذه تمعنت دائماً بالجانب الفلسفي التقليدي الذي تعرفنا عليه فيما توارثه العالم اليوم من تراث ابن خلدون وأفلاطون، واستلهمت من نظريته تلك موادها وتحليلاتها لما هدفت توفيره من معرفة ورأي في المواضيع التي أثارتها.
ورغم باعه مفكراً وأديباً وفيلسوفاً، فإن الكتب التي تدور حوله اليوم بمناسبة 100 عام على ولادته، قلما تعني بآرائه الفلسفية مهتمة، كما الحال في كتابين حديثين صدرا لهذه المئوية، بحياته العامة، وبنضاله من أجل السلام العالمي، ودوره في توفير خطط لهذه الغاية.
خلال الأسابيع الماضية، مباشرة بعد مهرجان «كان»، تمتعت ببعض الوقت الذي استغللته في متابعة الفوارق بين نظريته الفلسفية ونظريات الآخرين الذين سبقوه. ووجدت أنه بمجرد تقديمه نظريات جديدة وتطبيقية لماهية الفلسفة، وكيف لنا أن نمارسها في حياتنا اليوم، اختلف اختلافاً جذرياً (وإيجابياً)، وإن أدّى بالبعض لتجاهل إسهامه في هذا الاتجاه منشغلاً به مفكراً وسيرة حياة، وليس فيلسوفاً.
بين ما راجعته من كتب متوفرة في الموضوع كتاب أميركي لتوم أكهورست، عنوانه «السياسة الثقافية للفلسفة التطبيقية» The Cultural Politics of Analytic. بصراحة، لم أستطع سبر غور كل ما ورد في هذا الكتاب الصادر قبل ست سنوات، لكني اكتفيت بما اخترت قراءته فيه، سواء على صعيد تحليل إضافي لفلسفة راسل أو على صعيد التأكيد على أن الفلسفة الصحيحة لها علاقة بالمجتمع الصحيح.
الفيلسوف يحتاج إلى حرية لا توفرها النظم الديكتاتورية بالطبع. التفكير في أيام ستالين مثلاً، بفارق 10 في المائة عن تفكير الدولة، كان يمكن أن يؤدي بصاحبه إلى التهلكة، بل إن جملة من الأفلام الروسية التي أقدمت على نقد ستالين، ولو مواربة، بعد وفاته (تم إنتاج معظمها في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات) منعت قبل أن تتسلل إلى الغرب لتكشف ما أرادت كشفه. كيف والحال هكذا يمكن لفكر فلسفي أن ينشأ؟
الفلسفة لا بد تعني خير الشعوب لأنها خلاصات تفكير في الذات والمجتمع، وما ينبثق عنها من أفكار هي مثل فروع الشجرة تحمل الأوراق ذاتها، ولو أنها أصغر حجماً من الجذع. وما يُقال عن الوضع في روسيا الستالينية يُقال عن وضع إيطاليا الماسولينية وألمانيا الهتلرية. هذا يفسر لماذا هناك كتّاب ومفكرون من وزن برتراند راسل في أميركا وبريطانيا أكثر من أي مكان آخر على وجه الأرض.
هذا وحده لا يعني أن التخبط في تعريف الفلسفة، والتفريق بين الفكر وبينها، قد توقف. والرجوع إلى كتابات برتراند راسل، المولود قبل 100 سنة، حافلة بالمفاهيم المختلفة، ضرورية لصياغة رؤية صحيحة للعالم الذي نعيش فيه.