يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

سياسات وشعارات: لماذا الحالة القطرية مركّبة؟

يأتي تعبير «الحالة القطرية» للتأكيد على أن جوهر الأزمة لا يطال بنية الدولة، وإنما الحالة بالتعبير السياسي والمقصود بها التدابير المستجدة على نظام حكم يتجاوز الأسس التي بنيت عليها هويّة الدولة السياسية. وفي قطر هي هوية خليجية عربية إسلامية مؤطرة في سياق جغرافية الدولة وقدرتها على التأثير والتفاعل مع جيرانها والعالم، إلا أن «الحالة القطرية» هي مكوّن طارئ يعبّر عن رغبة في الخروج من مفهوم الدولة عبر ممارسات النظام الذي منذ عقدين، وهو يحاول تحويل الحالة إلى هويّة سياسية، عبر أداة الازدواجية التي تتجلى هذه الأيام على مستوى السياسة والخطاب «الشعارات».
في السياسة، من المهم العودة إلى السياق التاريخي القريب لإنعاش الذاكرة حول تحول قطر من دورها التقليدي «الدولة» كدولة محافظة تلعب في أحسن الأحوال دور الوسيط التقليدي على مستوى علاقتها بالجيران والعالم ممثلاً في دوله ومؤسساته، إلى مرحلة التحول إلى دور اللاعب الفاعل، ليس عن طريق التأثير السياسي، وإنما عبر الشعارات السياسية، بالقدرة على التغيير الإقليمي بدوافع براغماتية، حيث تم استقطاب أجندات متعارضة تمثلت في التحالف مع الإسلام السياسي بكل حمولاته الثقيلة، من الشمولية إلى الرغبة في التغيير الجذري ولو عبر الديمقراطية، وصولاً إلى الخطاب الأممي الذي وجدت فيه قطر ضالتها لتجاوز إطار الدولة والتحول إلى «حالة سياسية» تؤثر في شوارع بنغازي وميليشيات حلب والضاحية الجنوبية في لبنان، ومن ثم رعاية المعارضات في الدول التي مسّها الربيع العربي، رافعة شعارات: التغيير، والشرق الأوسط الجديد، وحرية الإعلام، والرأي الآخر... إلى آخر متواليات قناة الجزيرة، التي كان لها النصيب ذاته، حيث تحولت إلى «حالة إعلامية» موازية للحالة السياسية، فتجد على منصاتها لقاءً خاصاً مع قادة «القاعدة»، وحواراً مع البرادعي، بينما يتجادل اثنان: هل «الدولة الإسلامية» (وليس «داعش») باقية وتتمدد في «اتجاه معاكس» لمفهوم سيادة الدول؟
«الحالة القطرية» خلال عقدين من التخلي عن مفهوم «الدولة» امتازت بقدرة هائلة على المفاوضات غير المباشرة بين الأضداد والفرقاء السياسيين، بل والوصول إلى صيغ توافقية شائكة وملتبسة للتأثير، وهو ما يلائم الأحزاب السياسية التي تعيش حالة الدولة داخل الدولة، كـ«حزب الله» في لبنان، والجماعة الأم في بلدان كثيرة، منها «الإصلاح اليمني» على سبيل المثال لا الحصر.
والحق يقال، إن السنوات الصاخبة للربيع العربي ومتغيرات صعود الإسلاميين في تركيا، ومصر مرسي، وغزة حماس من قبل، وصولاً إلى حكومة «الشباب» في الصومال، ساهمت في التباس الدور بين المباشر أو عبر جسور الإسلام السياسي، التي سهلت هذا الصعود للحالة القطرية أكثر من الأداء السياسي والإعلامي. وبدا ذلك واضحاً في التجييش الشعبي والتحشيد الذي قام به الإسلاميون في مصر وليبيا وتونس واليمن في الربيع العربي، وتحول هذا الربيع إلى «نوستالجيا» ومناسبة سنوية، ليس لقراءة متأنية ونقد ما حدث والاعتراف بأخطاء المرحلة، ولو بنفس القدر الذي مارسته دول الاعتدال في إعادة قراءة لحظة سقوط العراق وتفكك مؤسسات الدولة، والذي كان دافعاً إلى انتشال مصر من المصير ذاته، بدعم الثورة التصحيحية التي قادها المصريون وتسببت في سقوط الإسلام السياسي ممثلاً في حكم جماعة الإخوان، إلى مرحلة لا تحتاج إلى تقييم أحد قدر الجماعة ذاتها التي يدور في أقبيتها الفكرية جدل طويل حول حل التنظيم أو القطيعة مع خطابه الشمولي، على الأقل في البلدان التي ما زالت الجماعة لم تخرج من المشهد بالكامل في محاولة لبقاء الحد الأدنى من الحضور السياسي الذي تراجع في المغرب وتونس واليمن. وبالطبع خارج المستوى العربي والإسلامي الخوف من إعادة النظر في ظل تغول الإرهاب في البلدان الغربية التي فتح بعضها، وآخرون في طريقهم، إعادة تقييم التصنيف وقراءة العلاقة في سياق العنف، وهو يمكن قراءته في حجم المراجعات الرسمية عبر ملفات البرلمانات الأوروبية، أو الجدل البحثي والصحافي حول قضايا الأمن والاندماج للأقليات المسلمة، ومستقبل العنف العابر للقارات الذي بات ظاهرة مؤرقة للعالم.
الإشكالية اليوم أن العالم تغير كثيراً منذ لحظة الإرهاب الجديد، حتى في الدول التي تحافظ على تقاليدها وثقافتها الديمقراطية وسيادة القانون، بدأت تتجه إلى إعطاء استثناءات حول ملف العنف والإرهاب، وهو ما لا يسمح ببقاء «حالة سياسية» أو بحسب وصف كريستيان أولريكسن من كلية الدراسات الدولية في جامعة واشنطن: «حلقة صغيرة من صانعي القرار بموارد مالية كبيرة»؛ تمارس أدواراً فاعلة خارج إطار ومنطق الدولة، الذي تحتاجه قطر أكثر من أي وقت مضى.