عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

المايوية بعد الثاتشرية؟

«احذر ما تتمناه فقد تحصل عليه»؛ قول إنجليزي يعني أن ما ستحصل عليه قد يسوقك إلى مشكلات مجهولة. رئيسة الوزراء تريزا ماي أقنعت البرلمان بالموافقة على انتخابات اعتقدت أنها تتيح لحزب المحافظين الذي تتزعمه زيادة أغلبيته البرلمانية من حفنة مقاعد إلى أكثر من مائة. استطلاعات الرأي منحتها نسبة تفوق 15 في المائة على حزب العمال منذ شهر واحد، اليوم لا تزيد عن ثلاث نقاط فقط، وبعضها يشير إلى برلمان معلق أو حكومة أقلية للمحافظين تنقص تسعة مقاعد عن 326 وهي الأغلبية المطلوبة لتمرير القرارات.
المحافظون أقدم حزب سياسي يحكم أكبر خامس اقتصاد في الكون أثار برنامجه تساؤلات. هل هي انتهازية انتخابية تتراجع عن فلسفة الحزب الأصلية بسرقة سياسات اشتراكية من حزب العمال؟
أم واقعية تتكيف مع المتغيرات في علاقات عناصر الإنتاج مع القوى الإنتاجية والاستهلاكية البشرية، بالتحرك نحو شرائح اجتماعية وجدت تقليدياً وتاريخياً خارج الأرض السياسية للمحافظين؟
فرفض الحزب التحرك إلى ما بعد الفلسفة الثاتشرية قبل ثلاثين عاماً أفقدته انتخابات 1997 وأجلسته على بنشات المعارضة لثلاثة عشر عاماً.
في الوقت نفسه، استمر الزعيم العمالي جيريمي كوربين في سياسة لم تتغير، وإن كانت مضرة اقتصادياً لكنها تروق لتيارات الشباب والراديكالية الشعبية، بينما تضافرت الصحافة التلفزيونية اليسارية «كالبي بي سي» والقناة الرابعة لمعارضتها للمحافظين، واليمينية «كسكاي» والتلفزيون المستقل لرفض ماي المشاركة في مناظرات انتخابية على الطريقة الأميركية كما أرادت لتغطية حملة المحافظين بشكل غاية في السلبية.
رأت السيدة ماي التوجه إلى الطبقات الشعبية المتمردة على المؤسسة الحاكمة (أي الذين صوتوا بالخروج من الاتحاد الأوروبي) بفلسفة الأصول الحقيقية للمحافظين والتي كانت وراء نجاح الثورة الصناعية ونهوض الرأسمالية، وتثبيت قواعد أهم وأشهر ديمقراطيات العالم وأكثرها استقراراً.
المحافظون، أقدم أحزاب العالم، تعود أصوله الأولى إلى The Tory إلى عام 1678 التيار الذي تزعمه دوق يورك (1633 - 1701) فحمله التيار إلى العرش وتوج الملك جيمس الثاني في 1685 وكان آخر رأس كاثوليكي يحمل التاج، فقد أطيح به بعد ثلاث سنوات فيما يعرف بالثورة المجيدة.
التوريز شعارهم «الله، الملك، الوطن» قدسوا التقاليد والتطور الطبيعي للمجتمع بلا ثورات. انحازوا إلى جانب الملك تشارلز الأول (1600 - 1649) أثناء الحرب الأهلية الإنجليزية (1646 - 1651). وظل الحزب ناشطاً في الحياة السياسة حتى 1760، ثم تطور الحزب باندماجه مع الليبراليين الوحدويين لكنه ظل متمسكاً بالتقاليد والنظام الملكي.
وغير الاسم من توريز (لأن أصل الكلمة أثناء الحرب الأهلية ارتبط بالخروج على القانون) إلى المحافظين conservatives باقتراح السياسي الآيرلندي المولد جون ويلسون كروكر (1780 - 1857)، وأصل الكلمة من الفعل conserve أي المحافظة في 1830 أثناء حركة الإصلاحات التي أعقبها صدور قانون البرلمان والانتخابات، وهو أصل الحياة السياسة الحديثة في وستمنستر.
ويعتبر السير روبرت بيل (1788 - 1850) Robert Peel الذي تولى رئاسة الحكومة مرتين، زعيمه المطور في شكله الحديث في فلسفة جمعت بين الإصلاح نحو عدالة اجتماعية تمزج الاحتفاظ بالتقاليد مع فرض انضباط القانون بلا أشكال القهر التي شهدتها مجتمعات أوروبية أخرى. تمثل ذلك في تأسيس بيل نظام البوليس الحديث في بريطانيا، الكونستابل الإنجليزي المهذب خادم المواطن ومرشده لا يحمل سلاحاً. تقاليد تضع ممثل هيبة الدولة في الشارع كخادم للمارة فيه يحافظ على النظام وعلى حقوق المواطن الفرد؛ أي استقرار المجتمع في المشاركة بين المواطن والدولة.
تقديس حرية الفرد هي جوهر فلسفة المحافظين كأساس المبادئ الليبيرتلية (وليست الليبرالية): تقليص دور الدولة؛ تخفيض الضرائب ودعم حرية السوق.
الثقافة الشعبية البريطانية ترى المحافظين حزب النظام الرأسمالي بينما حزب العمال هو الممثل الاشتراكي للطبقة العاملة وانتقل المفهوم بدوره إلى ثقافة الاقتصاد والأسواق من لندن إلى العالم. فمثلاً أدى ارتفاع شعبية العمال في استطلاعات الرأي هذا الأسبوع إلى انخفاض فوري في سعر الإسترليني كرد فعل لقلق الأسواق من تخريب العمال للاقتصاد.
حزب العمال وقد نشأ من الجمعية الفابية التي أسستها مجموعة من الاشتراكيين في 1844 والتيارات الاشتراكية والاتحادات العمالية والمفكرين اليساريين لا يستثمر في منشآت جديدة بل تأميم القطاع الخاص لتديره بيروقراطية الدولة.
توني بلير نجح قبل عشرين عاماً باقتباس برامج المحافظين الرأسمالية ليغزو العمال أرض المحافظين الانتخابية. السيدة ماي تقامر بتقليد الفكرة والتحرك يساراً.
برنامج السيدة ماي تضمن خططاً كالتوسع في بناء المساكن الشعبية للإيجار (مناقض للثاتشرية في تمليك المنازل بالتقسيط كاعتماد للفرد على نفسه بدلاً من السكن عند «الدولة» صاحبة البيت) وتحديد أسعار فواتير الكهرباء والغاز؛ وتمثيل للعمال في مجالس إدارة شركات القطاع الخاص؛ وتقديم وجبة إفطار مجانية لأطفال المدارس الابتدائية.
وفكرة قيام بدور الأسرة في رعاية الأطفال من المحرمات عند المحافظين التقليديين.
اشتمل مانيفستو المحافظين تعبيرات اشتراكية كالعدالة الاجتماعية لمواجهة سلبيات «الأنانية الفردية»؛ وهو تناقض جوهري مع فلسفة السيدة ثاتشر بقولها: «لا يوجد شيء اسمه المجتمع، إنما مجموعة الأفراد والأسر النواة (الأب والأم والأطفال)».
هل تقود ماي ثورة كإصلاحات روبرت بيل بعد اندماج جناحي التقليديين والليبراليين؟
المحافظون أصحاب الإصلاحات الديمقراطية وحكم القانون لإنهاء نظام الإقطاع كبنية اقتصادية مما طور شكل الحياة السياسية (كان التصويت والترشيح في البرلمان لملاك الأراضي فقط قبل إصلاحات القرن الـ19) بضمان القانون المساواة في الحقوق والواجبات؛ وتطوير نمط الإنتاج أدى لتنمية النظام الرأسمالي بتسهيل الملكية الفردية للمساكن والأراضي والاستثمار في الصناعة والإنتاج عبر تسهيل القروض من البنوك.
في القرن الـ21 تعاني شرائح اجتماعية كثيرة من «إقطاع» لا يقل ظلماً واستغلالاً عن أوضاع ما قبل الثورة الصناعية. إقطاع تمثله الاحتكارات الكبرى والعولمة متعددة الجنسية تعمدت تخفيض الأجور بالأيدي العاملة الوافدة، وباعت المصانع التقليدية لتجار الخردة، ونقلت مراكز الإنتاج إلى حيث العمالة الرخيصة، فخفضت مستوى معيشة الفرد، مما جعل الحقوق التي ضمنها محافظو القرن الـ19 بعيدةً عن متناوله اليوم.
ضحكت السيدة ماي من سؤالنا «هل تقدم المايوية Mayisim بعد الثاتشرية؟»، بدلاً من شرح فلسفة العودة إلى أصول القرنين الـ18 والـ19 لفلسفة المحافظين، بأسلوب مفهوم للناخبين الذين قد يرونها تتاجر بشعارات سرقتها من أفكار وسياسات العمال بدلاً من إقناعهم أنها تطور الحزب ليصبح محامي المهمشين أمام سيطرة القطاع الجديد ممثلاً في قوى العولمة الخارجة عن سيطرة أي حكومة.