عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الأمن والصحافة وتسريب الأسرار

في خطوة غير مسبوقة أوقفت حكمدارية بوليس مانشستر الكبرى مشاركة المعلومات مع الأجهزة الأميركية الستة عشر لقرابة يومين، لتسريبها تفاصيل قنبلة الحفل الغنائي للصحافة الأميركية.
التسريبات أغضبت المسؤولين، بدءاً من آندي بيرنام (احتج لدى السفير الأميركي) عمدة المدينة، التي بني اقتصادها على الثورة الصناعية من نسج القطن المصري، إلى رئيسة الوزراء تيريزا ماي، التي اشتكت للرئيس دونالد ترمب في لقاء قمة الناتو. ولم تستأنف المشاركة المعلوماتية إلا بعد وعده بالتحقيق وعدم تكرار الأمر.
التسريبات الأميركية بدأت منذ الساعة الأولى للحادث وكشف أحدها عن هوية المتهم.
القشة التي قصمت ظهر الجمل، كانت صور أجزاء من القنبلة وحقيبة التفجير (أرسلها بوليس مانشستر إلى الأميركيين وحلفاء آخرين في بلدان يحتمل أن يكون فيها مكان اقتناء بعض الأجزاء) ونشرتها «نيويورك تايمز».
أميركا الحليف الأول والأهم في الحرب والسلم معاً. بريطانيا تشارك معها، (وبشكل أقل، مع حلفاء آخرين طلب منا عدم نشر تفاصيلهم) المعلومات في الوقت الآني.
وهناك دائرة مشاركة معلومات أكثر اتساعاً تشمل أوروبا وبلدان شواطئ البحر المتوسط والخليج الصديقة، تُفعل الاتصالات معها، عند الحاجة للتنبيه لخطر أو لشخص مطلوب قبل وصوله إلى المطارات.
التسريبات تثير عدة قضايا:
أولاها، علاقة الصحافة بأجهزة الأمن (والمقصود العلاقة الشخصية للصحافي مع أفراد في هذه الجهات بثقة متبادلة؛ بتواز مع العلاقة الرسمية بالمكتب الصحافي الذي يرسل الإيميل اليومي).
البعد الثاني، موضوع لم يحسم فيه الجدل بعد، وهو مدى مسؤولية الصحافة عما يتعلق بأمن البلاد والصراع السيكولوجي الداخلي بين الرغبة في النشر وسلامة المجتمع.
البعد الثالث، حقيقة دوافع المسؤولين للاحتفاظ بالسرية. هل المبررات بالفعل موضوعية مؤقتة في مرحلة معينة من التحقيق؟ أم أنه الهوس بالنفوذ ولتجنب المساءلة عند ارتكاب أخطاء؟
عندما وصلت إليّ رسالة خاصة بالموبايل عن «انفجار» في قاعة أرينا بمدينة مانشستر (أكبر قاعة مغطاة للاحتفالات في أوروبا وتتسع لـ21 ألف متفرج) في الساعة التاسعة و36 دقيقة بتوقيت غرينتش؛ لم تكن نشرت على موقع بوليس مانشستر (بعدها بخمس دقائق غرد البوليس بوقوع «حادث كبير في أرينا مانشستر»). اتصلت بضابط أعرفه شخصياً، فزودني بما لديه من معلومات وطلب مني «اتفاق جنتلمان» بعدم ذكر كلمات كـ«انفجار أو قنبلة» حتى إشعار آخر؛ فقط أذكر «حادثا كبيرا» لأن «الإجراءات فيها خطر على الحياة» إذا نشرت المعلومات.
اتفاق الجنتلمان مع مسؤول نمت العلاقة معه عبر سنوات طويلة، قاعدة أساسية في ميثاق شرف شارع الصحافة. المعلومات مقابل الاتفاق على موعد النشر (كتحركات رئيسة الوزارة البريطانية مثلا والجيش؛ كما حدث عندما لم ننشر خدمة الأمير هاري في أفغانستان حتى سربها الأميركيون لصحيفة في كاليفورنيا).
الانفجار حمل بصمات التطرف بإيقاعه المتعمد بأكبر عدد من الضحايا. فالمتهم سلمان رمضان عبيدي تجنب تفتيش الحقائب، وانتظر خارج القاعة لتفجيرها لحظة الخروج المزدحم.
انتحاري على أغلب الظن، ومحتويات الحقيبة بها أدلة. تحركاته ذلك اليوم، اتصالاته ومقابلاته إن كان طرفاً في شبكة. وقد يكون هناك شركاء؛ هل انتحر باختياره أم أن شريكاّ فجر القنبلة بريموت كونترول؟ هل هناك قنابل أخرى؟ (البوليس الآن متأكد من وجودها مما رفع حالة توقع الإرهاب إلى «حرجة») وأكثر من فخ يرتب.
في أحداث سابقة كان هناك عبوات ناسفة أخرى تنفجر بعد الأولى في طريق فرق الإنقاذ والإسعاف.
ومثل زملائي الذين اتصلوا بمعارفهم في بوليس مانشستر قدرنا هذه الأمور بخبراتنا السابقة. والتزمت في تغريداتي «التويترية» وتقريري إلى ديسك الأخبار، بما حدده لي الضابط الذي أعطيته وعد الجنتلمان.
البوليس الذي استدعى كل أفراد القوة من العطلات ومن الراحة ومن قوات مجاورة للتعامل مع الحادث، قرر حجب التفاصيل الأولية ليستغل عنصر المفاجأة بمداهمة أي عناوين عثر عليها من أدلة ومعلومات في حقيبة العبيدي وتليفونه الجوال.
معلومات وصلت إلى الأميركيين وقت دخلت الكومبيوتر المركزي. بعد ساعة واحدة والبوليس يغرد: «حادثة كبيرة، وتقارير عن احتمال انفجار» نشرت محطة تلفزيون أميركية تفاصيل عن الانفجار من معلومات بوليس مانشستر التي سربها الأمن الأميركي.
وتكرر الأمر في اليوم التالي بنشر الأميركيين اسم منفذ العملية، مما ساعد على اختفاء عدد من أفراد الشبكة، أهمهم صانع القنبلة (ويعتقد أنه عبد الباسط العزوز) من أخطر المطلوبين للعدالة في عدة بلدان اليوم.
نشر صورة أجزاء القنبلة أمر لا يعرقل مسيرة التحقيق (مخالفة جنائية في قانون إنجلترا وويلز) فحسب، وإنما أيضا يعرض حياة الناس للخطر أيضا.
فإلى جانب حساسية مشاعر أهالي الضحايا (الأجزاء التي نشرت صورها غطتها دماء الضحايا) نشرت صورة البادئ initiator وهو غير المفجر detonator الذي يتلقى إشارة البادئ. البحث في معلومات البادئ: من اشتراه ومن أين؟ يرى البوليس سريتها في أثناء التحقيق أمراً ضرورياً. النشر لم يفقد البوليس عنصر المفاجأة فحسب، بل أيضا سيدفع صانع القنبلة للاختفاء، واحتمال الإسراع بتفجير ما لديه من قنابل أخرى؟ أين؟ ومتى تنفجر؟ ومن سيفجرها؟ انتحاريون أم أنها موقوتة بجهاز توقيت؟ أو بريموت كونترول من على بعد؟
نشرُ الأميركيين أيضا المعلومات دفع بوليس مانشستر للتحرك أفقيا، أي مداهمة عدد كبير من المساكن والعناوين في الوقت نفسه بدلا من التسلسل. ولأن البوليس في بريطانيا غير مسلح، فإن وحدة الطوارئ لحمل السلاح صغيرة وعددها وقدراتها محدودة لمداهمة عدة أماكن في الوقت نفسه.
استغاث بوليس مانشستر بلندن لإرسال ضباط إضافيين. لندن فيها عدد كبير من المعالم التي يستهدفها الإرهابيون، من مقرات الحكومة للقصور الملكية والبرلمان، يحرسها قرابة ألف ضابط، يحبون أن يشاركوا في مطاردة الشبكة الإرهابية. الحكومة ملأت مراكزهم وحدات جيش تحت إمرة البوليس (لا قيادة الأركان) لحراسة أماكن لا تحتاج إلى مهارة بوليسية، وإنما فقط أعمال الدورية واليقظة لصد هجوم قد يكون مسلحاً، قبل الوصول للهدف وأيضا لطمأنة الرأي العام والسياح، مثل المساعدة التي قدمها الجيش في حراسة أوليمبياد لندن عام 2012 لتفتيش الحقائب في مداخل الاستاد ونشر بطاريات مضادة للصواريخ على أسطح المباني القريبة من القرية الأوليمبية.
السؤال الذي لم يجب عنه الزملاء الأميركيون: لماذا لم يتبعوا تقاليد المهنة التي تدربنا عليها في شبابنا؟
إننا دائما نرفض أي رقابة بما فيها الرقابة الذاتية، لكن هذا لا يعني تغييب عقولنا أو «الاستعباط» عما هو بديهي!