طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الصيت ولا الغنى

كلنا نعاني من كثرة تبديد الوقت في مهرجان (كان)، إلا أننا نستشعر أن تلك الإجراءات الأمنية، هي قرار حتمي لأنه في النهاية لحمايتنا جميعا، وعلى طريقة اللمسة الفرنسية، منذ الهبوط في مطار (نيس) والذهاب في رحلة تستغرق نحو 45 دقيقة إلى (كان)، ستلمح كيف أن الأشجار وضعت داخل الأصيص على كل جنبات الطريق، لكي تشارك في اللحظة الحاسمة لمنع أي جريمة إرهابية محتملة، بعد حادث الشاحنة المروع في مدينة (نيس) الذي دهس به متطرف إرهابي عشرات من الضحايا الأبرياء، في كل الشوارع المؤدية للقصر الذي تجري فيه الفعاليات الرئيسية للمهرجان، ستطالعك تلك الأشجار، كل هذا التخوف المشروع، أدى إلى أن نجد طوابير الانتظار تستغرق أحيانا نحو 15 دقيقة، قبل أن يُسمح للصحافي بالدخول إلى دار العرض، وفي نفس الوقت فإن الفيلم لا ينتظر أحدا، ولن يتأخر عن موعده، إلا أن الصحافيين والنقاد لديهم أيضا أسحلتهم، فلقد بدأ مثلا عرض الفيلم الكوري (أوكجا) قبل دخول عدد كبير من الصحافيين، وبدأ التصفيق الاحتجاجي، ثم ارتفعت الوتيرة أكثر، فكان لا بد من إيقاف العرض بناء على طلب الصحافة، وإعادة ما فات من الشريط السينمائي.
الصحافيون بات لهم طقس دائم توارثوه جيلا بعد جيل في (كان)، حيث ستجد اسم (راؤول) يتكرر في كل مهرجان، بعدها يبدأ التصفيق الممزوج بالضحك، وذلك مباشرة عند إطفاء الأنوار وقبل كتابة الـ(تترات)، لم يعترض أحد من منظمي المهرجان على هذا الطقس السنوي، رغم أنه يتعارض مع قواعد المشاهدة الصحية، سألت قبل نحو 20 عاما د. رفيق الصبان الناقد الكبير الراحل السوري الهوية المصري الهوى، من هو راؤول؟ أجابني أنه ناقد فرنسي كان يحرص منذ بداية المهرجان وفي اللحظة الحاسمة التي تسبق العرض، أن يهتف مرددا اسمه بصوت عال فيصفق أصدقاؤه، وبعد رحيله في الثمانينات لم يتوقف حتى الآن الجميع عن الهتاف باسمه.
يبدو أننا معشر الصحافيين وكأننا نملك الكثير من الأوراق، حسنا أن تصدقوا ذلك، وكل من يعمل بالمهنة التي وصفوها بالبحث عن المتاعب، يعنيه قطعا أن تنتشر تلك الشائعة، على طريقة (الصيت ولا الغنى) وهو بالمناسبة كان عنوانا لفيلم بطولة المطرب الشعبي محمد عبد المطلب قدمه قبل 70 عاما ولاقى فشلا ذريعا!!
أغلب زملائي من المؤكد واجهوا مثلي مواقف مشابهة، وهي أن الكل يتصور أننا نملك كل الأوراق، وكل حسب تخصصه، من يعمل في دائرة الفن والثقافة يقولون له ترضيك أغاني المهرجانات واوكا واورتيجا، يسيطران على آذاننا بالغث، ولا يفوتهم أيضا أن يطلبوا من العبد لله التدخل لدى المسؤولين عن الفضائيات، بما لديّ من تقدير لديهم ومطالبتهم بحذف أي مشاهد يرونها مخلة خاصة أن الشهر الكريم على الأبواب.
أخجل أن أقول لهم إن الأمور لا تسير أبدا على هذا النحو، وإن شعار المرحلة الآن، هو اكتبوا ما يعنّ لكم لن نصادر أقلامكم، واتركونا على المقابل سنفعل ما يتراءى لنا.
نعم يطلقون علينا (السلطة الرابعة) بعد القضائية والتشريعية والتنفيذية، وطوال التاريخ ستجد من الأحداث ما يدعم تلك الصفة، فكم تمكنت صاحبة الجلالة، من تغيير رؤساء والإطاحة بحكومات، ولكن أيضا طوال التاريخ ستكتشف أن هذا هو الاستثناء بينما القاعدة هي (الصيت ولا الغنى)، ويكفينا أننا لا نلتزم بقواعد مشاهدة الأفلام في أعتى المهرجانات، ولا أحد يمنعنا من ترديد اسم (راؤول)!