د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

التاريخ لا يسير في خط مستقيم

هذا مقال عن العالم الذي نعيش فيه، هو محاولة لتتبع «الصورة الكبرى» لدنيانا، وما يدفع إليه أن «التغيير» بات سريعاً، والتقاط حال الدنيا من الوضع ثابتاً أصبح مستحيلاً، وبشكل من الأشكال، فإن معرفة النظام العالمي تقول عنا إننا أصبحنا مثل العميان حينما يحاولون قياس أبعاد مكعب الثلج بينما يذوب بين أصابعهم. في الماضي كان الأمر سهلاً، أو بالأحرى ممكناً، حينما انقسم التاريخ إلى فترة الإمبراطوريات، وبعد الثورة الفرنسية (ويمكن الأميركية أيضاً) وميلاد الدولة القومية، أصبح تاريخ القرن التاسع عشر وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى مرحلة التنافس الاستعماري بين الدول الأوروبية على الجنوب أو العالم الثالث، بتعبيرات أيام أتت فيما بعد. لم تكن كل الدول القومية متساوية فقد كانت بريطانيا العظمى هي القطب الواحد بامتياز، ولديها الأسطول الأول بقدر ما كانت لها الريادة في الثورة الصناعية الأولى. وحينما انتهت الحرب، كانت صناعة القتل قد تمت ميكنتها، وأصبحت الثورة الصناعية الأولى جزءاً من ميلاد الدولة القومية، وانهارت إمبراطوريات كبرى (العثمانية والنمساوية - المجرية)، وبات التنافس متعدد الأقطاب في الشمال (بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان)، بقدر ما كان حالة قلقة ضد الاستعمار في الجنوب. لم تفلح تجربة وضع نظام عالمي حول عصبة الأمم حتى أصبح أول ضحايا نشوب الحرب العالمية الثانية التي خلفت وراءها نظاماً كان الأخطر، ولكنه كان الأكثر أماناً والأعظم وضوحاً. كان النظام ثنائي القطبية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)، ويقوم على منتجات الثورة الصناعية الثانية التي أفرزت السلاح النووي الذي استخدم في نهاية الحرب، وظهرت النتائج التي جعلت استخدام هذا السلاح مرة أخرى قد يعني فناء البشرية.
النتيجة كانت الحرب الباردة التي ترجمت التنافس والسباق بين العملاقين على النفوذ في العالم من ناحية، ولكنها جعلت الدنيا آمنة من نشوب حرب عالمية مرة أخرى. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، سقط حائط برلين، وبعد عامين انهار الاتحاد السوفياتي، كانت الثورة الصناعية الثالثة قد هَلَّت، وباتت كل النظم السياسية المغلقة والآيديولوجية لا تستطيع العيش في ظل تواصل دولي غير مسبوق، ولأن الولايات المتحدة كانت الأكثر غوصاً في الثورة التكنولوجية، وربما الأكثر استعداداً للعولمة، فإنها صارت القطب الأوحد. ولكن القطب الأوحد الجديد ربما كان الأقصر عمراً في تاريخ وحدانية الأقطاب، وجاء ذلك من حوادث إرهابية جرت في ساعات قليلة ذات صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك وواشنطن. في ذلك اليوم وُلد عالم جديد آخر.
وبصراحة، فإن العالم الجديد الآخر أصبح متحدياً لما عرفناه عن عوالم سابقة عرفت «القطبية» منفردة كانت أو متعددة، وتأثيرات ثورات صناعية واجتماعية واقتصادية وأمنية بالتالي. فالتحدي الذي أتى على النظام جاء أولاً من منظمات وحركات غير الدول، هي قوى عائمة عبر الحدود والدول وحتى بين الطبقات الاجتماعية، وهي في غضبها لا تميز بين البشر، وهي في تصرفاتها لا تخضع للقواعد المتعارف عليها في الدفاع والهجوم، والأهم الردع. هي من ناحية انعكاس لأكثر أشكال الحضارة الإنسانية بدائية حتى تقترب من الوحشية، ولكنها من ناحية أخرى عاشت في ظلال أدوات التواصل الاجتماعي الكوكبية وباختصار أدوات الثورة الصناعية الثالثة.
أعلنت الولايات المتحدة الحرب ضد الإرهاب اعتباراً من مطلع القرن الحالي، ثم لحقتها عبر السنين معظم دول العالم، ولكن بعد عقد ونصف العقد من الحرب، فإن النصر لا يزال بعيداً في الأفق. كانت نتيجة الحرب الأميركية في أفغانستان والعراق في الدخول إليها والخروج منها مكلفة.
وبالطبع، فإنه يمكن قراءة العالم الجديد الآخر من زوايا النظم العالمية السابقة، وربما كانت الحيرة فيما ننظر إليه هو أنه ليس عالماً واحداً، وإنما هو عالم متعدد العوالم والأبعاد. فالمؤكد أن العالم لا يزال ثنائي القطبية عسكرياً، فالولايات المتحدة وروسيا كلتاهما لا تزال لديها من وسائل التدمير الشامل ما يكفي لتدمير كوكب الأرض عدة مرات، وبهذا المعنى فإن القطبين يلعبان لعبة فيها سمات الحرب الباردة، التي كانت، بالمناسبة، فيها الكثير من الأزمات الحادة، كما كان فيها لحظات وفاق. ولكن القطبية الاقتصادية تجعل روسيا بعيدة وتدخل بدلاً منها الصين وألمانيا القائدة للاتحاد الأوروبي واليابان وبريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي، ومن ورائهم تأتي قوى جديدة في الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والسعودية وتركيا. ولكن الثورة الصناعية الثالثة، وتلك الرابعة التي لاح فجرها الآن، بدأت في توليد نوع جديد من القطبية العلمية والتكنولوجية والقدرة على قيادة أنماط إنتاجية عالمية، وفي هذه تدخل دول مثل إسرائيل وسويسرا وفنلندا والسويد، وربما أيضاً شركات عالمية متعددة الجنسيات بمقدورها التأثير سلباً وإيجاباً على الأمن الدولي، وكذلك الاقتصاد العالمي، مثل «مايكروسوفت» و«آبل» و«غوغل».
هذا العالم الجديد الآخر ليس معقداً ومركباً فقط، ولكنه أيضاً سريع التفاعل، وينتقل بسرعة بين مستويات القوة وأنواعها المختلفة من الخشنة إلى الناعمة، وخلال الشهور الماضية، ربما قبل عام من الآن، فإن الدنيا بدت كما لو كانت قد استقرَّت على «نوع العولمة»، مع استقرار الولايات المتحدة على قمة العالم بالمشاركة حسب الموضوع، ونوع القوة، مع قوى أخرى. مثل ذلك لم يشكل نوعاً من الوضوح الكافي الذي تستطيع به الدول أن ترسم سياساتها الخارجية، وعلاقاتها الدولية، ومع ذلك فإن «النظام» أياً كان معنى ذلك، سرعان ما واجه مجموعة من الصدمات التي بدأت بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ثم أعقبها فوراً فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولم يمضِ وقت طويل حتى بدا أن النظام الديمقراطي الليبرالي المشكل لمحتوى العولمة والثورة الصناعية الثالثة يتعرض لضربات كبيرة من الداخل، حيث تصاعدت الآيديولوجية القومية لكي تفوز على الفكرة الليبرالية. وهكذا صارت صيحات «أميركا أولاً» و«بريطانيا أولاً» و«فرنسا أولاً»، وغيرها في القارة الأوروبية وتوابعها في كندا وأستراليا، تتعارض مع نزعاتها «العالمية»، وإيمانها بأن ما يصلح لها يصلح أيضاً لبقية العالم.
فوز إيمانويل ماكرون في فرنسا على السيدة لوبان، وكذلك فوز مون جاي - إن، في الانتخابات الرئاسية الكورية، يعطي إشارة إلى أن الطريق إلى القومية على حساب الليبرالية ليس سالكاً كما بدا للوهلة الأولى، أو أن الليبرالية فقدت قوة اندفاعها التي منحتها إياها الثورة الصناعية الثالثة. صحيح أننا لم نسمع القصة إلى نهايتها بعد، فلا يزال الطريق مفتوحاً لمزيد من الانتخابات والخيارات، إلا أن إحدى النتائج المتوقعة هي أن الزخم الموجود في الطاقات التكنولوجية للعولمة، خصوصاً ما يتردد عن ثورة صناعية رابعة، قد يجعل ما جاء من تيارات قومية لا يزيد عن استثناءات تثبت فقط أن مسار التاريخ ليس دوما مساراً مستقيماً، وأنه في معظم الأحوال يتعرض لمسارات متعرجة يعود بعدها إلى مساره «الطبيعي»، وجمل اعتراضية تعترض المسار الروائي، ولكنها لا تحرفه عن التيار الرئيسي للقصة الإنسانية.