أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

القرصنة الإلكترونية... العلة والعلاج

تقرير «الشرق الأوسط» المقلق قبل يومين حول الهجمات الإلكترونية الأخيرة التي استهدفت آلاف الحواسيب حول العالم بشكل غير مسبوق، ينبئ بتحول كبير في أمن المعلومات، نظرياً كما يفهمه الأكاديمي، وعملياً كما يمارسه التقني. والتقرير فيه من تفاصيل هذه الهجمات ما يغني عن تكرارها، ويمكن للقارئ الكريم العودة إليه.
لكنَّ حدثاً كهذا، وبهذا المدى الواسع، تسبب في حالة من الذعر والقلق لدى دول وجهات كثيرة، بما فيها شركات أمن المعلومات في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والصين. ومع أن الفدية التي طلبها القراصنة تافهة، مقارنة بحجم التهديد وأثره المعنوي، فإنه رسم مستقبلاً جديداً حول خطورة الوجه الآخر من التقنية؛ الوجه الشرير الذي قد ينسف مصالح أفراد واقتصاد دول، ويدمر خدمات أكثر مما تفعله قنبلة ذرية.
والإرهاب الإلكتروني، إن صح التعبير، لا يختلف عن إرهاب قرصنة السفن أو تفجير الأسواق ودور العبادة؛ أولاً لأن مرتكبيه قد يكونون أفراداً أو جماعات أو دولاً، ولأنه قد يبدأ بالابتزاز وينتهي بحرب عالمية.
ونتذكر كثيراً من محاولات الاختراق التي ارتكبتها دول ضد خصومها من دول أخرى، خصوصاً فيما يتعلق بمواقعها الإلكترونية الأمنية، أو ما يرتبط بملفاتها الخارجية، في محاولة لمعرفة أو فضح مخططاتها وأنشطتها.
ثم تحولت المسألة إلى اختراق لبريد الرسائل الإلكترونية لشخصيات مهمة، ثم قرصنة ضد الانتخابات الرئاسية، كما قيل إنه حصل في الولايات المتحدة وفرنسا.
المشكلة أن لعب الكبار بالنار جعل منه أمراً مثيراً لدى المراهقين الشباب الذين هم أقل حكمة وإدراكاً بتداعيات هذا العمل الإجرامي، وأكثر مهارة في التعامل مع التقنية، وابتكاراً لجراثيم الحواسيب والأنظمة.
وليس غريباً أننا سمعنا بشركات تقنية عالمية قامت بتوظيف شباب مراهقين، ممن يسمون «الهاكرز» أو قراصنة الإلكترونيات، في إدارة الخدمات الأمنية، والاستعانة بخدماتهم بمبالغ ضخمة لأجل بناء جدران عازلة لحماية أنظمتها وسد ثغراتها.
هذه لعبة خطيرة لا أحد يمكنه التنبؤ بنهايتها ما لم تكن محاربتها على أساس دولي، باعتبار القرصنة الإلكترونية تهدد السلم والأمن العالميين، وتجريمها دولياً، واعتبار مرتكبيها مجرمين ملاحقين من الشرطة الدولية. وكما ذكرت وسائل إعلام عالمية، فإن مستشفيات في بريطانيا اضطرت لإرجاء عمليات جراحية للمرضى بسبب اختراق أنظمة مستشفياتها، إضافة لمخاطر قرصنة معلومات الأسلحة، خصوصاً ذات الدمار الشامل، والطائرات من دون طيار (الدرون)، والمصارف والأقمار الاصطناعية وشركات الكهرباء، وغيرها.
وبعيداً عن التفاصيل التقنية التي تسببت بها الهجمة الأخيرة، فإن الفكرة المخيبة للآمال أننا بتنا نعيش واقعاً جديداً، يلزمه آليات مراقبة ونظم قانونية جديدة. ومنذ الإثارة التي ولدها تسريب وثائق ويكيليكس، أصبح العالم أكثر فضولاً للتعرف على أسرار الدول والمراسلات الشخصية للمشاهير، مما جعل التقنية تبدو بلا أخلاق، ومحترفيها بلا مبادئ. وكل من اعتبر تسريب تلك الوثائق، بصرف النظر عن قيمة أو عدم قيمة نشرها، أو اعتبارها عملاً صحافياً يستحق مكافأة أصحابه، عليه اليوم ألا يشتكي من الاختراقات لأن لكل مبدأه الذي يعمل عليه. فكما أن المعلومات التي يتم التلاعب بها تخدم مصالح دول أو جماعات بعينها، بقدر الضرر الذي تحدثه على أصحابها، لأننا أمام تقاطع في المصالح سيجعل المسألة أكثر تعقيداً.
باختصار، لم تعد الأمور من الناحية المهنية والأخلاقية والقانونية واضحة، وهذه أهم مشكلة ستواجهها محاربة القرصنة، لأن المخترق ليس على كل حال فرداً مستقلاً يعيش في مخبأ معتم يقوم بابتزاز الآخرين من أجل الحصول على المال أو المتعة. قد تكون القرصنة بفعل منظمات، والأسوأ أن تكون منظمات مدعومة من دول، كما يحصل في الإرهاب التقليدي، إن كنا سنسمي القرصنة إرهاباً حديثاً.
كل مجالات الحياة التي استفادت من التقنيات الحديثة هي اليوم عرضة للضرر المباشر من هذه التقنية نفسها، صغرت الفائدة أم كبرت.
وحتى لا نصيح صيحة نوبل، الذي اخترع الديناميت ثم غفر لنفسه بالجائزة، على المجتمع الدولي كله أن يتوحد ضد أي دولة تستخدم أو تسمح بمثل هذه الاعتداءات من بعض أفرادها، واعتبارها هجوماً مكافئاً لاختراق الحدود والتسبب بضحايا وخسائر، وبالتالي سن قوانين دولية تجرم هذا الفعل الصادر من أي دولة كانت.
أيضاً، رغم الهلع الذي أصاب الناس صباح أمس (الاثنين) من إعادة تشغيل حواسيبهم بعد عطلة نهاية الأسبوع، واستمرار الاختراقات، فإنها تظل حرباً ليست سهلة بين مصممي البرامج وتحدي سد الثغرات، وقدرة القراصنة على إحداث ثغرات للدخول والعبث بالمحتوى.
وفي هذه الحرب، مثل كل الحروب القائمة، تستلزم الشجاعة الاعتراف بوجود نوافذ لعبور المخربين داخل أنظمتنا الإلكترونية، وضرورة توحيد الجهود وتبادل المعلومات والتعاون لتحسين بيئة التشغيل التقني بين الدول، أي تعاون دولي وإشراف أممي على الدول والمنظمات التي تعمل مع أو ضد حماية الأمن الإلكتروني، لأنه خطر عابر للقارات، غير مرئي بالعين المجردة، لكنه مدمر بالنتيجة.
[email protected]