د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

الدستور الليبي ونهاية المخاض

الدستور هو عقد تعايش اجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، يضمن حق المواطنة للجميع، وكتابته يجب أن تكون بالتوافق لا المغالبة بين جميع مكونات الشعب وليست حكراً بين الأطراف السياسية، وفي العلن تضمن حق الجميع في كتابة دستور غير إقصائي لا ينكر أحد، فلا يمكن إنكار الحقوق الأمازيغية والتباوية في هذا الدستور. ليبيا عربية الهوية وفيها مكونات أمازيغية وتباوية متعايشة.
ليبيا بدأت دولة اتحادية ضمن توافق دستوري عام 1951، ثم أصبحت دولة موحدة بمرسوم ملكي عام 1963، ثم أصبحت جمهورية بدستور معطل في انقلاب عسكري عام 1969، حيث دام تعطيله 42 عاماً، وحين بدأ حراك انتفاضة فبراير (شباط) تمت كتابة إعلان «دستوري» مؤدلج بدلاً من تفعيل دستور البلاد المعطل.
الدستور أو العقد الاجتماعي أو سيد القوانين، أهميته تكمن في كونه يحدد شكل الدولة، وينظم السلطات العامة والواجبات والحقوق، فالدساتير تنقسم إلى دساتير مدونة، من خلال وثيقة مكتوبة وأخرى غير مدونة، وتتنوع من حيث طريقة تعديلها إلى دساتير مرنة؛ أي قابلة للتعديل، ودساتير جامدة، وقد تكون مرحلة كتابة الدستور بداية نهاية المخاض العسير الذي تمر به البلاد جراء انتقالها من الشمولية والتفرد بالقرار في ظل تعطيل دستور البلاد، ونفوذ القرار على سلطة القانون، إلى «الثورة»، إلى بناء الدولة.
عند صياغة الدستور لا بد من مراعاة التمييز بين الدستور ومبدأ دستورية الحكم constitutionalism؛ فقد يوجد الدستور في غياب الدستورية. فالحكم الدستوري هو الحكم الذي تتوفر فيه قيود على ممارسة السلطة، وتضمن فيه آلية واضحة للمحاسبة. فاتخاذ الحكومات سلطات مطلقة دستورياً تجعل منها حكماً شمولياً في ثوب دستوري؛ فلا يكفي إصدار التشريعات وتطبيقها، فلا بد من وجود مبادئ للتشريع تقيّد الجنوح نحو الاستبداد وممارسته بقواعد تشريعية. فأغلب طغاة العالم مارسوا الحكم الشمولي والاستبداد والظلم من خلال قوانين وتشريعات شملها الدستور، الذي كتب في غياب الشعب وتزييف إرادته. فوجود الدستور دون مبدأ الدستورية لا يعني بالضرورة أننا أمام حكم ديمقراطي خالص، فمبدأ الدستورية وجد لتقييد ومحاسبة وكبح جماح الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، حتى لا تتحول إلى ديكتاتوريات تحت مظلة الدستور، وتمارس الاستبداد، وحتى لا يتحول الدستور إلى كومة من ورق لا قيمة لها في تحقيق حرية من خلال ديمقراطية مغيبة.
صياغة الدستور يجب أن تكون بجمل واضحة، وليست مطاطية قابلة للتأويل بعدة أوجه؛ حتى لا تتحول إلى مواد ملغومة قابلة للانفجار. فالدستور قابل للتعديل بإرادة الشعب ضمن استفتاء عام؛ فالمهم هو بدء الصياغة. فمرحلة الكتابة أو الصياغة تبدأ من انتخاب لجنة الستين.
صياغة الدستور الجديد والمسودة المتداولة الحالية لا تحمل أي توافق وطني؛ لأنها اعتمدت نهج المغالبة، وتمحورت حول استرضاء المكونات الثقافية على حساب الهوية العربية، حيث إن المسوّدة تنكرت لكون ليبيا عربية في قارة أفريقيا، واكتفت بتعريف ليبيا بدولة أفريقية، كما أنها أقصت من ولدوا لأمهات غير ليبيات من حق المواطنة، ومنعت حتى من كانوا في الماضي ينتمون للمؤسسة العسكرية من الترشح للمناصب السيادية في إقصاء انتقائي واضح، كما أنها تجاهلت العرف السائد في اختيار أعضاء مجلس الشيوخ، وتركته تمثيلاً سكانياً؛ مما سيجعل أي قرار هو بيد إقليم دون باقي الأقاليم.
الاستفتاء على دستور يتجاهل حقوق الكثيرين، ويتنكر لهوية الأغلبية، ويتحول إلى تآمر على الوطن من خلال إذكاء النعرات الجهوية، والمناطقية، والقبلية، والحزبية، وتلك مسؤولية النخبة بالدرجة الأولى لتعزيز مبدأ الحرية (فالحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تحضرها نخبتها لتحمل مسؤوليات استقلالها)، فلا يمكن تمرير دستور ينتقص حق المواطنة.