د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

جاذبية الاستثمار الأجنبي

شهدت العقود السابقة زيادة ملحوظة لأهمية الاستثمار الأجنبي على المستوى العالمي، فبعد أن كان مجموع الاستثمارات الأجنبية في العالم لا يزيد عن 250 مليار دولار عام 1990، تضاعف هذا الرقم حتى وصل لأكثر من 1.7 ترليون دولار في عام 2015. تزامنت هذه الزيادة مع حالة التعافي التي يشهدها الاقتصاد العالمي اليوم. وقد انخفضت هذه الاستثمارات نحو النصف إبان الأزمة المالية عام 2007، إلا أنها عادت وتضاعفت بعد 8 سنوات من هذه الأزمة.
هذه العلاقة الطردية تؤكد أهمية الاستثمار الأجنبي وارتباطه الوثيق بالنمو الاقتصادي للدول. ويزيده أهمية دوره الفعال في تكامل الاقتصاد العالمي وتماسكه، وذلك بتوحيد المصالح بين الدول من خلال الاستثمارات المشتركة فيما بينها. لأجل ذلك، يتسابق كثير من الدول هذه الأيام لجلب الاستثمارات الأجنبية إليها، إدراكا منها للفوائد العائدة من هذه الاستثمارات. وتتمثل هذه الفوائد بتوفير فرص العمل للمواطنين وزيادة الحركة التجارية، إضافة إلى دخول خبرات في السوق، وهو ما يزيد التنافسية في الخدمات المقدمة وينتج زيادة الرقي في مستوى العيش.
وعلى المستوى العالمي، تتصدر الولايات المتحدة واليابان والصين وآيرلندا وهولندا الدول في حجم الاستثمارات الأجنبية. والمتأمل في عوامل نجاح الاستثمار الأجنبي في هذه الدول، يجد كثيرا من النقاط المتشابهة فيما بينها في سياسات الاستثمار الأجنبي. ففي هذه الدول، يقوم كبار المسؤولين في الدولة بالمشاركة الفعالة في تسويق الاستثمار الأجنبي، وذلك لإثبات أن الحكومة داعم أول لهذه الاستثمارات. كما قامت حكومات هذه الدول بتأسيس جهات متخصصة في الاستثمار الأجنبي، تكون هذه الجهات منسقة للمستثمر الأجنبي بين جميع الدوائر الحكومية المعنية بالاستثمار الأجنبي، وذلك لتسهيل الإجراءات للمستثمر. وتكون هذه الجهة هي المسؤول الأول عن تزويد المستثمرين بأي معلومة عن الاستثمار الأجنبي. كما وضعت هذه الدول استراتيجيات واضحة للاستثمار الأجنبي تشمل تحديد القطاعات المستهدفة، والإعلان عن المحفزات المالية المقدمة لهذا المستثمر، والتفصيل في الخدمات المقدمة لهذا المستثمر قبل الدخول في الاستثمار وحتى بداية استثماره، إضافة إلى الخدمات المستمرة أثناء الاستثمار.
وتتمثل نقاط النجاح السابقة في التجربة الأميركية في الاستثمار الأجنبي. ففي الولايات المتحدة يشارك رئيس الدولة وحاكم الولاية والسفير في الدولة الأجنبية في التسويق لجلب استثمارات الشركات الأجنبية. وأنشأت الولايات المتحدة خدمة سمتها «اختر أميركا»، توفر نقطة اتصال واحدة بين المستثمر الأجنبي وأكثر من 20 وكالة فيدرالية يحتاجها هذا المستثمر. وقد استهدفت الولايات المتحدة دولا بعينها لجلب استثمارات أجنبية منها، تشكل هذه الدول مجتمعة أكثر من 30 في المائة من حجم الاستثمارات الأجنبية في العالم.
إضافة إلى ذلك، تقوم الجهة المسؤولة عن الاستثمار الأجنبي بالإعلان الدائم والواضح عن مميزات الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، شارحة بكل تفصيل المساعدات المقدمة من الحكومة الأميركية، والفروقات الموجودة بين الاستثمار في أميركا وغيرها من الدول.
وفي سنغافورة، قامت الحكومة بتأسيس شركة حكومية تعنى بالنمو الاقتصادي للدولة، وتربو ميزانية هذه الشركة على أكثر من 400 مليون دولار. ويعمل بها نحو 500 موظف يهدفون إلى تسويق الاستثمار في سنغافورة لدى كبرى الشركات العالمية، والبحث عما يجذب هذه الشركات للاستثمار في سنغافورة.
وتبحث الشركات الأجنبية عن دول ينخفض فيها معدل الخطر في الاستثمار، وتشكل الحركة الاقتصادية عاملا مهما في ذلك، ففي حالة الركود الاقتصادي يزيد معدل الخطر الطارد للشركات الأجنبية. كما تؤثر بيئة العمل بشكل جوهري في جذب المستثمر الأجنبي، ويرى البعض أن معدل أجور العاملين هو أهم عناصر بيئة العمل، بينما يرى آخرون أن إنتاجية الموظف ومؤهلاته لسوق العمل أكثر أهمية. ومن أهم عوامل جذب الاستثمار الأجنبي هو النظام القانوني والسياسي في البلد. ويشمل ذلك القانون التجاري وسهولة المعاملات التجارية، كما يشمل معدلات الشفافية والفساد في الدول، والاستقرار السياسي للحكومة.
ويلاحظ انخفاض الاستثمار الأجنبي في دول أميركا اللاتينية بسبب زيادة معدلات الفساد وانعدام الشفافية، إضافة للحالات السياسية غير المستقرة لبعض تلك الدول. وتنظر هذه الشركات إلى التسهيلات المقدمة من الدولة من إعفاءات ضريبية وتسهيل المعاملات الإدارية بعيدا عن البيروقراطية المستهلكة للوقت وتقديم بنية تحتية للعمل، من أنظمة اتصالات ووسائل مواصلات.
إن أكثر من يدرك جاذبية الدولة للاستثمار الأجنبي هي الدولة نفسها، فهي العارفة بنقاط القوة والضعف لديها، وبإظهارها لنقاط القوة لديها تستطيع جذب الاستثمارات التي تتناسب مع إمكاناتها الحالية والمستقبلية، ومع توجهها الاقتصادي والسياسي. ففي حين تهتم بعض الشركات الأجنبية بمعدلات الأجور أو المحفزات المالية، يهتم بعضها الآخر بالبيئة الاقتصادية المستقرة والنظام الضريبي المناسب. ويعتمد ذلك تماما على القطاع الاستثماري، فقد تكون أسعار الطاقة عاملا أساسيا في إحدى القطاعات وعاملا هامشيا لدى قطاع آخر، وهو ما يعطي الدولة مجالا أكبر للبحث عن الشركات الأجنبية المتوافقة مع نظرتها الاقتصادية المستقبلية، بالاعتماد على مكامن القوة لديها.