محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

هل أنت ذكي؟

كثيرون منا لا بد شاهدوا، ربما منذ سنوات، ذلك الفيديو الذي بث على الإنترنت حول الغراب الذي كان يقف عند رأس عمود شارة المشاة الكهربائية بعدما يرمي حبة بندق أمام السيارات. واحدة منها سوف تمر عليها بلا ريب فتكسرها. ينتظر توقف السيارات وبدء عبور المشاة ليطير كالصاروخ إلى الحبة المفلوقة ليلتقطها ويعود إلى مكانه قبل أن تتغير إضاءة الشارة الكهربائية.
هذا ذكاء، ولو أنه محصور في كيف يسعى الطير، ومثله كل الحيوانات والأسماك وأنواع الطيور والحشرات التي خلقها الله تعالى، للبقاء حياً. وسوف ترى، إذا ما راقبت الحياة من حولك جيداً ضروباً كثيرة من الأمثلة التي يحسن فيها غير البشر من المخلوقات تدبير طريقة البقاء أحياءً. قدرات ربانية تم تزويد المخلوقات (بما فيها النباتات والأشجار) بها لكي لا تموت إلا حين يأتي أجلها، وتعبير منها جميعاً (حتى من شجرة الصبير في صحراء أريزونا) بأن الحياة ثمينة جداً والسنوات التي نقضيها في هذه الحياة عليها أن تكون أثمن.
لكن ذكاء المخلوقات غير الإنسانية يختلف عن ذكاء الإنسان ذاته. لأن الإنسان مخلوق يعمل بمقتضيات أخرى غير البقاء سليماً وحياً (لا يستطيع لمس النار ويخاف على صحته من الجراثيم إلخ…) فمن بينها أيضاً تلك القدرات غير المحدودة للدماغ.
راقبت ذات مرّة في شارع عربي مشهداً أثار الضحك، لكنه كشف عن مأساة: سيارة مقبلة بعكس السير من ناحية اليمين، وأخرى مسرعة آتية من ناحية اليسار، والطريق لا تسع إلا لسيارة واحدة. نزل السائق الأول من سيارته وصرخ بالسائق القادم مع السير: «لماذا تقود سيارتك بهذه السرعة؟»، فنزل الثاني من سيارته وقال: «لماذا أنت مخالف السير؟». رد الأول: «نعم، أنا خالفت السير، لكن لماذا أنت مسرع؟»، والثاني رد: «سرعتي ليست المسألة. المسألة هي أنك مخالف السير».
اشتد الصياح بينهما وارتفعت نبرة العداء وتدخل بعض المارة للتفريق بينهما: «استهدوا بالله يا جماعة. حصل خير». في النهاية رجع الآتي بعكس السير مترين إلى الوراء حيث هناك زقاق يمكن أن يلجأ إليه، ومضى الثاني في طريقه. السائق المخالف للسير خرج من الزقاق وأكد حقه في مخالفة القانون بالمضي بعكس السير.
أليس كلاهما أغبى من الآخر؟ الأول لا يحترم القوانين والثاني كان مسرعاً بالفعل وكان يمكن أن يصدم سائراً يجتاز الشارع القصير. ولا إحصاء للحوادث والمفارقات المماثلة في كل مكان. لكن هذا المثال هو تعبير عن المجتمع الذي نعيشه هنا أو هناك، حيث الفردية مطلقة ومبدأ التغاضي عن الخطأ إذا ما ارتكبه الشخص والتمسك به إذا ما ارتكبه الآخر ما هو إلا انعكاس لحال المجتمع الواحد. هو الكاشف عن لماذا هذا المجتمع متقدم عن ذلك أو العكس. وهو الخبر اليقين في لماذا يحسن البعض اختيار كل شيء، من الملبس والطعام والهواية إلى شريك الحياة إلى العناية بالصحة والنجاح بالعمل، بينما يخفق آخرون في نصف هذه الاختيارات على الأقل.
الذكاء ليس الشطارة ولا المهارة ولا الحذلقة، فالفرق كبير. ونعم هناك أذكياء وهناك أغبياء، ولا أعتقد أن الأمر متوارث، فالمخ كالعضلات تمرنها لكي تفكر وإذا لم تفعل وأهملته أهملك.