نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

ترمب على حق... الدستور الأميركي عتيق

هل الدستور الأميركي قديم، كما لمّح الرئيس دونالد ترمب في الآونة الأخيرة في مقابلة شخصية مع قناة «فوكس نيوز» الإخبارية؟ إن الإجابة المدوية هي «أجل»؛ إذا كنت أصولي النزعة كما رأى السيد ترمب بأنه كذلك. ولقد أشار الرئيس، عن غير قصد، إلى أفضل مبرر ممكن للدستور القائم الذي يتطور لأجل مواكبة الأوقات دائمة التغير. وهذا التطور، بطبيعة الحال، لا بد أن يأخذ في الاعتبار العناصر الأساسية اللازمة للحياة، مثل الفصل بين السلطات. ولسوف تكون من الأفكار الكارثية محاولة تعديل «التعديل الدستوري الأول»، كما لمح كبير موظفي البيت الأبيض رينس بريبوس خلال مقابلة شخصية أخرى أجريت معه مؤخراً. ولكن إجمالاً للقول، فإن أفضل الطرق لتجنب التقادم الدستوري هو عن طريق الاعتراف بأن الدستور على قيد الحياة، وعلى غرار كل الأشياء الحية، لا بد أن يتكيف مع الظروف الحياتية المتغيرة.
دعونا نبدأ بالدقة، وهي الشيء غير الظاهر دائماً في تصريحات السيد ترمب أو الانتقادات الليبرالية الموجهة إلى تصريحاته. لم يقل السيد ترمب حرفياً إن الدستور الأميركي عفى عليه الزمن. بدلا من ذلك فإنه قد أشار إلى «السياسات» بصفة عامة:
«إنه نظام صارم للغاية... إنه نظام قديم عفى عليه الزمن. إذا ما نظرنا إلى قواعد مجلس الشيوخ، وحتى قواعد مجلس النواب، ولكنّ قواعد مجلس الشيوخ وبعضاً من الأشياء التي يتعين عليك المرور خلالها، بالفعل، أمور عقيمة بالنسبة لبلاد كبلادنا من وجهة نظري. هناك قواعد عتيقة وربما في مرحلة من المراحل، سوف يتعين علينا التعامل مع ومعالجة هذه القواعد، لأنه من أجل مصلحة البلاد لا بد أن تتغير بعض الأمور وتكون على نحو مختلف تماما».
قد تعتقدون أن ترمب يقول إنه من القواعد العتيقة أن يصوت الكونغرس على مشروع أحد القوانين قبل تمريره والموافقة عليه. ولكن هذه العبارة الراديكالية لا يمكن عزوها إلى السيد الرئيس على نحو منصف. ولنقرأ بتمعن، يبدو أن مخاوف السيد ترمب تتعلق في الأساس بقواعد عمل مجلس الشيوخ مثل المماطلة السياسية.
ومن الجدير بالملاحظة، أن المماطلة السياسية غير متضمنة في الدستور الأميركي. وفي حقيقة الأمر، فإن المماطلة السياسية ليست من الممارسات الديمقراطية بحال، وذلك لأنها تسمح للأقلية في مجلس الشيوخ بعرقلة عمل الأغلبية. وللمعلومية، فإن الرئيس ترمب يملك الأحقية في التفكير بأن ممارسة المماطلة السياسية من الممارسات التي عفى عليها الزمن. فليست هذه الممارسة قديمة فعلا، ولكنها تملك تاريخاً مشيناً من سوء الاستخدام عرقلة تمرير قوانين الحقوق المدنية في مجلس الشيوخ.
والأمر الوحيد الذي يدل على دستورية المماطلة السياسية هو، على غرار القواعد الأخرى المعمول بها في مجلسي الشيوخ والنواب، أنها تندرج ضمن صلاحيات الدستور لوضع القواعد الداخلية الخاصة. والبند الخامس من المادة الأولى من الدستور ينص على «من حق كل مجلس أن يحدد قواعده الإجرائية الخاصة».
وهذا يعني أنه ليس من حق الرئيس، من الناحية الدستورية، أن يفعل أي شيء حيال مثل هذه القواعد. وعندما قال الرئيس ترمب: «سوف يتعين علينا التعامل مع ومعالجة هذه القواعد»، فإن لفظة «علينا» في هذا السياق لا بد أن يتم تفسيرها بشكل فضفاض للغاية.
وفي واقع الأمر، ظلت المماطلة السياسية تشهد قدراً من التقلص على مدى السنوات الأخيرة، حيث استخدم الأعضاء الديمقراطيون والجمهوريون في الكونغرس ما يسمى الخيار النووي للقضاء على استخدام هذه الممارسة بالنسبة للمرشحين للمناصب القضائية الرفيعة. ولا تزال ممارسة المماطلة السياسية جارية بالنسبة للتشريعات برغم ما ذكرنا. ولكي يتم القضاء عليها تماما، فإن هذا يعني التطور في الإجراءات التشريعية داخل الكونغرس.
وبكل تأكيد، فإن مثل هذا التطور من الأمور المرغوب فيها والضرورية كذلك في الشؤون الدستورية بصفة عامة. ولنضرب مثالاً بالجهاز الإداري، الذي كتب عنه منتقداً إياه السيد نيل غورساتش، مرشح السيد ترمب لمنصب القاضي في المحكمة العليا الأميركية، إذ قال:
«لا وجود لما يسمى الجهاز الإداري في الدستور الأميركي، بالمعنى الدقيق للكلمة. فإن المؤسسين الأوائل لم يخطر على بالهم وجود الوكالات الحكومية المستقلة. كما لم يخطر على بالهم أيضا مقدرة كثير من الوكالات على سن التشريعات التي لها قوة القانون، أو أهليتها الواسعة على الفصل فيها. ومن الأمور الشائعة في القانون الإداري أن تمارس الوكالات الحكومية هذا النوع من الوظائف شبه التشريعية وشبه القضائية، على الرغم من حقيقة مفادها أن تلك الوكالات تنتمي بشكل رسمي إلى السلطة التنفيذية في الدولة».
مثل هذا التطور الحكومي يستلزم التحديث المتواصل. ومن الأمثلة على ذلك: قانون مراجعة الكونغرس لعام 1996، الذي يمنح الكونغرس 60 يوماً تشريعياً لعكس الأوامر الإدارية الصادرة عن الإدارة الرئاسية السابقة. ولقد وقع الرئيس ترمب على 13 مشروع قانون للتراجع عن السياسات التي سنها الرئيس الأسبق باراك أوباما. وهذا يزيد بمقدار 12 مرة عن الحالات التي تم تفعيل هذا القانون بشأنها من قبل.
وتكمن الفكرة وراء هذا القانون في أن الكونغرس يملك الصلاحيات القانونية المتأصلة في مراجعة وعكس القرارات التي اتخذها الجهاز الإداري في الدولة. وفي واقع الأمر قد يكون التراجع عن بعض القوانين من الممارسات غير الحكيمة، ولكن قانون مراجعة الكونغرس نفسه يمثل مكوناً إبداعياً وتطورياً لتحويل الجهاز الإداري في الدولة إلى جزء فعال من الهيكل الدستوري الأميركي.
ونظراً لأن الكونغرس لديه الصلاحيات لعكس اللوائح التنظيمية، فإن صلاحيات الوكالات الحكومية في سن هذه اللوائح في المقام الأول تعتبر صلاحيات شرعية.
ومن الجدير بالذكر أن قانون مراجعة الكونغرس تم تمريره من قبل الكونغرس الذي تهيمن عليه الأغلبية الجمهورية من الأعضاء كجزء من «التعاقد مع أميركا»، ووقع عليه الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وبطريقة عامة، قد يعتبر هذا القانون هو الأفضل بالنسبة للجمهوريين عن الديمقراطيين، بسبب أن المعسكر الديمقراطي يميل إلى تفضيل اللوائح والتنظيمات عن المعسكر الجمهوري. ومع ذلك فإنه يعكس النموذج الديمقراطي الأساسي للتشريع، وفيه يتعين على الكونغرس والرئيس الذي يوقع على القانون أن يتحملا المسؤولية حيال اللوائح التي يتراجعان عنها.
إن القضاء على الجهاز الإداري على أسس أصولية من الأمور العتيقة، اقتباساً لكلمة الرئيس ترمب. فإن النظام الدستوري الفعال في حاجة إلى الوكالات. وهذه الوكالات بدورها في حاجة إلى تكون جزءاً من نظام بيئي دستوري أوسع يشمل الرقابة القضائية والتشريعية على حد سواء.
والنتيجة هي أنه من اللطيف للسيد ترمب أنه قد اكتشف أن هناك تقادماً في الدستور الأميركي. ولهذا السبب لا بد من تطوره، ولماذا أن الأصولية هي من الفلسفات الدستورية الخاطئة وبكل جدية.
إن الفصل بين السلطات، برغم ذلك، ليس من الأشياء التي عفى عليها الزمن. ولا التعديل الأول للدستور كذلك. فإنهما بمثابة العمود الفقري وشريان الحياة النابض للدستور الأميركي. والقضاء عليهما سوف يؤدي إلى انهيار النظام. ولا ننسى أبداً أن عكس الدستور الحي هو الدستور الميت.

*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»