طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الفن يواجه الدم!

من الجراح يولد التحدي، ومن الألم تبدأ الومضة الأولى للأمل، وهكذا رأيت المهرجان السينمائي «طرابلس للأفلام» في دورته الرابعة، والذي ينهي فعالياته الخميس المقبل، تواصل هذه التظاهرة إشعاعها في عاصمة الشمال اللبناني، في هذا الطقس الربيعي الساحر.
لم تكن السينما هي الهدف الأول، ولكن الدفاع عن حق الإنسان في الحياة، بدأ المهرجان عام 2014، في عز ذروة الصراع الطائفي المدجج بالسلاح، في «جبل محسن» والمناطق المتاخمة له. جمعية صغيرة يسكن أفرادها فقط عشقهم للوطن، وبحق الإنسان في التعاطي مع الفنون، إلياس خلاط مقرر الجمعية، ومدير المهرجان السينمائي وابن طرابلس قرر مع مجموعة من الشباب المتحمس أن يطفئ لهيب النيران بالسينما، كانت تلك المنطقة منذ عام 2011، وفي أعقاب انطلاق الثورة السورية، تُشكل تنويعة أخرى للصراع داخل الحدود اللبنانية تحت ذريعة الدفاع عن الطائفة، لم يكن أبداً هذا السؤال الطائفي مطروحاً قبل ذلك التاريخ، البيت الواحد يسكنه الجميع، والدكان والمقهى ومائدة الطعام لم تعرف أبداً تلك التقسيمات، ولكن لأن طرابلس متاخمة للحدود السورية فلم تلبث النيران سوى أنها امتدت للجوار، وبالتأكيد هناك دائماً من يتعطش لسفك الدماء، ومن يتاجر أيضاً بها، ولهذا يحرص على تأجيج الصراع.
كان ينبغي أن يعلو صوت يرفض القتال، عدد من الشباب، قرروا من خلال جمعية صغيرة، أن يقيموا المهرجان في 2014، رغم بقايا طلقات الرصاص، واختاروا في البداية، بالإضافة إلى العرض في الصالات المكيفة، أن يذهبوا للشارع وعلى مفارق الطرق التي تصل لجبل محسن، أقيم عدد منها في الهواء الطلق، ليتوحد الجميع مع الشريط السينمائي. هذه الدورة جاء العرض مباشرة في جبل محسن، ليقدم صورة عملية على أن الجمال قادر على أن يمحو القبح، غير صحيح أن الكتاب والفيلم والأغنية واللوحة عليهم أن يصمتوا عندما يعلو صوت القنبلة. خط الدفاع الأول هي الثقافة، تتوجه أولاً للبنية التحتية، محو الأمية هو نقطة الانطلاق، الجاهل أكثر ميلاً للتطرف، وتعليم الحرف مثل الحياكة وتنمية مواهب الأطفال، يواجه أي نزعات طائفية، لا فرق بين أحد، الأطفال يرددون النشيد نفسه، ويقفون تحية للعلم، عندما يكبر هذا الطفل لن يستطيع أحد استقطابه، ستظل مظلته هي الوطن.
تجولت في رحلة سريعة وشاهدت على البيوت بقايا تبادل النيران تشهد بأنه كانت هناك جراح تركت ندوباً، وصور الضحايا مرفوعة أمام البيوت، تابعت التناقض بين أحيائها الراقية وحواريها الشعبية، دائماً هناك سحر في الحالتين.
القائمون على المهرجان لديهم هدف تحقيق رسالة ثقافية، ولهذا فإن الدعوة مجانية للجمهور، يشارك في الفعاليات عدد مهم من المخرجين والأفلام، وفي هذه الدورة المساحة العربية أكبر، لم ينسَ المهرجان أن يهدي دورته إلى جورج نصر شيخ السينمائيين في لبنان، وأول من عرض فيلماً في المسابقة الرسمية في مهرجان «كان» عام 1957، وهو ابن طرابلس، هناك تنوع بين الأفلام القصيرة والتسجيلية والتحريك.
على كثرة ما تابعت من مهرجانات عالمية وعربية وعلى مدى ثلاثين عاماً، يظل «طرابلس» حالة استثنائية، فهو لا يقيم بعدد الأفلام، ولا الضيوف، ولن تجد لديه السبق في عرض الفيلم، ولكن يملك ما هو أهم من السبق، إنه الصدق، فهو يتحدى قُبح الطائفية بجمال الفن.