مرة أخرى انتهك بشار الأسد القانون الدولي. ومرة أخرى، هاجم شعبه بالأسلحة الكيماوية. ومرة أخرى، ارتكب جرائم الحرب من دون تأنيب ضمير أو بادرة من الندم. ومرة أخرى، ينكر كل ذلك تماما، على الرغم من أنه الطرف السوري الوحيد في هذا الصراع الذي يملك القوات الجوية، ويمكنه القصف بالأسلحة الكيماوية، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد أكدت حتى الآن أن القوات الجوية السورية ظلت تنفذ غارات القصف الجوي في هذا الجزء بالتحديد من محافظة إدلب.
وبطبيعة الحال، فهي نفسها الأسلحة التي زعم الرئيس السوري أنه قد تخلص منها بالكلية عن طريق تدميرها أو شحنها بالكامل لأجل تدميرها في الخارج وفق الاتفاق الأميركي الروسي المبرم في عام 2013. وفي ذلك الوقت، زعم الرئيس الأسد أنه قد أفصح تماما عن المعلومات المتعلقة بالمخزون السوري الإجمالي من الأسلحة الكيماوية لديه. ومع ذلك، ومرة أخرى، يكذب الرئيس السوري على العالم.
وبالنظر إلى سجله الحافل، ليست هناك وسيلة لتصديق أي شيء يقوله الرجل أو يلتزم بفعله. وعلى العكس من عام 2013، عندما قرر الرئيس باراك أوباما عدم الرد من دون الحصول على تفويض من الكونغرس الأميركي، وجه الرئيس دونالد ترمب الأوامر بتنفيذ ضربة عسكرية لمعاقبة الجيش السوري ضد القاعدة الجوية التي استخدمها النظام السوري في تنفيذ الهجوم بالأسلحة الكيماوية. وكان الهدف من وراء توجيه هذه الضربة العقابية توضيح الأمر بأنه من غير المسموح إطلاقا استخدام الأسلحة الكيماوية مع الإفلات من العقاب بأكثر من الإشارة بتغيير واضح في السياسات الأميركية حيال الحرب الدائرة في سوريا. وهذا يعني أن لهجة الإدارة الأميركية حيال الرئيس بشار الأسد قد تغيرت. فلقد انتقل وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون من قوله إن «مستقبل بشار الأسد يعود إلى الشعب السوري» إلى أن يقول: «يبدو أنه لن يكون هناك دور يلعبه (الأسد) في حكم الشعب السوري».
ومن السابق لأوانه معرفة ما سوف يعنيه تصريح كهذا بالنسبة لسياسة الإدارة الأميركية التي لا تزال قيد الصياغة بشأن الأزمة السورية. ولا بد لهذه السياسة أن تأخذ في اعتبارها المقاربات والتصرفات الروسية والإيرانية. وكلا الموقفين اللذين يدافعان حتى الآن عن بشار الأسد ونظام حكمه، يُظهران أنه ليس هناك من شيء واضح يستطيع النظام السوري فعله من شأنه أن يدفعهم إلى الابتعاد عنه وعدم مساندته. وبالتالي، فإن ذلك يمنح بشار الأسد الترخيص الكافي للاستمرار في الهجوم على أي هدف يختاره، على الرغم أنه من الآن فصاعدا لن يتمكن من استخدام الأسلحة الكيماوية في خياراته المقبلة.
ولكن دفاع روسيا عن الأسد هو المثير للدهشة لأنه يأتي مع كثير من التكاليف. فالجانب الروسي لا يرغب في معاملة الأسلحة الكيماوية مثل أي سلاح آخر، وعلى الرغم من عدم استجابة إدارة الرئيس ترمب لذلك، فإن حماية الروس لبشار الأسد في مجلس الأمن بالأمم المتحدة كانت تعني أنه يمكنه استخدام الأسلحة الكيماوية وقتما يشاء مع الإفلات من العقاب. كذلك، فإن الرسالة المطلوب إرسالها لكل زعيم آخر في أي صراع أنه من المقبول استخدام الأسلحة الكيماوية لتغيير موازين القوى في الصراع والحصول على ميزة من وراء ذلك. ومن الصعوبة بمكان أن نعرف كيف يمكن لذلك الأمر أن يخدم المصالح الروسية. كما أنه من الصعوبة أيضا الوقوف على المكاسب الروسية المحققة من وراء إظهار أن أي اتفاق يُبرم معهم لا قيمة له في أرض الواقع.
لقد تفاخر الأسد بشكل لا لبس فيه بالاتفاق الذي أبرمه الجانب الروسي مع الولايات المتحدة في عام 2013، مما يعني أنه إما قد تعمد الكذب عليهم بشأن تطهير ترسانته العسكرية من الأسلحة والسلائف الكيماوية، أو أنهم قد تعمدوا الكذب على الولايات المتحدة. وأيا كان الأمر، لا يبدو الجانب الروسي في موقف جيد. وإن لم يكن هناك شيء آخر، فإننا نرى مرة أخرى، أن الجانب الروسي لن يتخلى عن بشار الأسد، وأن التعاون مع روسيا في الأزمة السورية لا معنى له في الظروف الراهنة على أدنى تقدير. وعلى المنوال نفسه، إذا لم يكن الجانب الروسي مستعدا للدفاع عن وحماية استخدام نظام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية داخل مجلس الأمن، لكانت هناك الآن حجة قوية لانتهاج مقاربة جديدة تماما حيال الجانب الروسي.
ومن المؤكد، أنه لا تزال هناك لحظة لممارسة الدبلوماسية الهادئة مع الجانب الروسي الآن. وبصرف النظر عن مطالبة الجانب الروسي بالتصعيد على الأرض، فإن رسالة الرئيس ترمب إلى الرئيس بوتين لا بد أن تعرب عن أن هناك قوات للمعارضة ضد نظام حكم الأسد، وأن هذه المعارضة لن تذهب إلى أي مكان - فلقد قتل الرجل كثيرا من أبناء شعبه وهناك رغبة عارمة في الانتقام منه، وهذه الرغبة لن تذهب أدراج الرياح. إننا نرغب فعلا في أن تتوقف أعمال القتل، ونحن على استعداد للعمل والمساعدة في إنهاء أعمال القتال والشروع في عملية سياسية بناء على قرار مجلس الأمن رقم 2254 - الذي دعا إلى وقف جميع الأعمال العدائية، وإنهاء عمليات الحصار، وإمكانية وصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق، والسماح بفترة 18 شهرا للانتقال السلمي للسلطة. ولقد أيد الجانب الروسي هذا القرار غير أنه لم يصنع شيئا يُذكر إزاء مواصلة بشار الأسد انتهاك كل جزئية من جزئيات ذلك القرار. فالجانب الروسي قد أطلق يد الأسد للتصرف كما يشاء. لذلك، إذا ما رغب الجانب الروسي في العثور على وسيلة لاحتواء الصراع - وربما التحرك نحو النتائج السياسية - فسوف تكون الولايات المتحدة شريكا في ذلك. وإن كان العكس هو المراد، فسوف تزداد التكلفة كثيرا على روسيا.
ومن المرجح لمثل هذه الرسالة من جانب الولايات المتحدة أن تتمتع بكثير من المصداقية اليوم. فعدم القدرة على دعم رسائلنا السياسية بأي عناصر قسرية على أرض الواقع، أفقدت تلك الرسائل كل تأثير ممكن لها مع الجانب الروسي. والآن، يمكننا الحصول على هذا التأثير. وهذا بالطبع قد لا يؤثر في سياسات السيد بوتين. وربما قد أصبح شديد التقيد ببشار الأسد كما هو الحال بالنسبة لإيران. وربما أصبح رمز القوة الروسية في منطقة الشرق الأوسط أكثر ارتباطا الآن بوجود بشار الأسد. وربما يشعر السيد بوتين بالحاجة إلى إظهار أن استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية ليس حاسما. وإن كان الأمر كذلك، فسوف يزيد الجانب الروسي من دعم استخدام بشار الأسد للبراميل المتفجرة، والقيام بمزيد من الأفعال لإخافة قوات المعارضة والسكان المدنيين في المنطقة التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة.
ولكن مشكلات الجانب الروسي لن تختفي فجأة، وسوف ترتفع تكاليف دعمهم لبشار الأسد في الوقت الذي يفتقر فيه إلى القوة البشرية الكافية لاستعادة الأراضي والسيطرة عليها. ومع ارتفاع هذه التكاليف، ربما يبدأ السيد بوتين في البحث عن مخرج. وفي الأثناء ذاتها، يجب لاستراتيجية الإدارة الأميركية حيال سوريا ألا تركز فقط على هزيمة تنظيم داعش الإرهابي. وربما تدرك الإدارة الأميركية هذه الحقيقة الآن. وفي واقع الأمر، تذكرنا تصرفات بشار الأسد بأنه إن ظل على رأس السلطة فسوف يكون بمثابة أداة تجنيد مؤثرة لإزالته. ومع وضع ذلك في الاعتبار، فمن شأن الإدارة الأميركية أن تعتمد نظرة أبعد حيال الصراع السوري. ويمكنها أن تقرر أنه في حين أن محاولة استبدال بشار الأسد غير ذات جدوى طالما أنه يحظى بالدعم الروسي والإيراني، فلا بد الآن من وضع استراتيجية جديدة تُعنى بإقامة المناطق الآمنة في سوريا بوصفها جزءا من استراتيجية أكبر تهدف إلى احتواء هذه الحرب برمتها. ومن شأن المناطق الآمنة أن تكون خارج حدود هجمات نظام بشار الأسد، وإذا حاول انتهاك هذه المناطق الآمنة فسوف يدرك الجانبان الروسي والإيراني أن هذا الأمر سوف يستدعي تنفيذ تدابير عقابية من جانب الولايات المتحدة، وسوف توفر المناطق الآمنة الملاذ للاجئين وتؤدي إلى تقسيم الدولة السورية بحكم الأمر الواقع. وفي نهاية المطاف، إذا لم يتحرك الرئيس الروسي الآن لاحتواء الصراع السوري، فإن واقع التقسيم من شأنه أن يوجد له الذريعة المطلوبة لإنهاء الصراع، وإيجاد وضعية أكثر استقرارا ولكن بتكاليف يسهل التحكم فيها.
أما بالنسبة لإدارة الرئيس دونالد ترمب، فإن إقامة المناطق الآمنة والشروع في عملية التقسيم لن تؤدي إلى احتواء الصراع على الأرض فحسب، وإنما تخدم مصالح الولايات المتحدة في تشكيل بيئة مع بعد «داعش» في مدينة الرقة. ولا يمكن للأسد، وإيران، والميليشيات الشيعية أن يبقوا هناك إذا اختفى الواقع غير الطائفي من على خريطة الأحداث. ويكون وقتذاك العمل على إرساء دعائم الحكم، وإعادة الإعمار، والأمن في مثل هذه البيئة الجديدة. إن سوريا بكل تأكيد هي المشكلة الجديدة من أصل الجحيم. ولكن استعداد الإدارة الأميركية لممارسة واستغلال نفوذها والاعتراف بلزوم وجود منهج للعمل من شأنه أن يفتح الطريق أمام التخفيف من حدة هذا الصراع الرهيب.
7:20 دقيقة
TT
أميركا وإنهاء الصراع السوري الرهيب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة