رغم أن ما يقسم الجسم السياسي اللبناني طائفياً وحزبياً وزعامات مناطقية وانجذابات إقليمية، ما زال قائماً ومحركاً للنظام الديمقراطي البرلماني، فقد رحب اللبنانيون بانتخاب الجنرال عون رئيساً جديداً للجمهورية، وبتكليف سعد الحريري تأليف الحكومة الوفاقية الجديدة، مؤملين عودة الاستقرار السياسي، وبالتالي انتعاش الاقتصاد... بانتظار انجلاء الصراعات الإقليمية والدولية التي تمزق شعوب المنطقة، وتتلاعب بمصير أكثر من نظام حكم دولة فيه.
ولا خلاف على أن الرئيسين عون والحريري أثبتا رغبة أكيدة في التعاون وطي صفحات الخلافات السابقة بين حزبيهما؛ مما سهل عودة مؤسسات الدولة إلى الدوران.
غير أن مسيرة الوفاق والتطبيع السياسي تصطدم اليوم بصخرة قانون الانتخابات النيابية الجديد الذي تعذر الاتفاق عليه بين الأحزاب والكتل النيابية؛ مما اضطر الرئيس عون إلى استخدام مادة دستورية عطل بموجبها انعقاد مجلس النواب (من أجل تمديد مدة ولايته) لكي يضغط على النواب والأحزاب، ويدفعهم إلى الاتفاق على قانون الجديد. مع العلم أن ما لم يتوصل النواب والأحزاب إلى الاتفاق عليه في عشرات الاجتماعات والحوارات ليس من السهل إنجازه في الشهر والشهرين المقبلين.
لا شك في أن الرئيسين عون والحريري سيفعلان كل شيء لإقناع النواب والأحزاب بقانون انتخابي جديد يرضي أو يطمئن الجميع. لكن المشكلة الحقيقية هي في أنه من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، العثور على قانون انتخابي يؤمّن مصلحة كل الأحزاب أو التكتلات الطائفية والزعامات المناطقية التقليدية، ولا يناقض مقدمة اتفاق الطائف التي تجعل من الوفاق الوطني (أي موافقة الزعماء أو المؤسسات الطائفية والمذهبية) ركناً أساسياً للحكم وللحياة العامة.
لقد تداول النواب والخبراء السياسيون والقانونيون اللبنانيون في معظم صيغ قوانين الانتخابات في العالم، وتوصلوا إلى أن قانوناً يجمع بين النظام الأكثري والنظام النسبي يمكن أن يوفق بين كل الأطراف، لكنه تبين أيضاً أن تطبيق هذا القانون ليس سهلاً، بل إنه يكرس الانقسامات الطائفية ويخربط المشهد السياسي اللبناني، بل وقد يعطل اللعبة البرلمانية الديمقراطية. وقيل إن الحل هو في إكمال تطبيق اتفاق الطائف بإنشاء مجلس شيوخ (يرأسه درزي)، لكن رئيس حزب التيار الوطني الحر، سارع بالمطالبة بأن تكون هذه الرئاسة الرابعة من نصيب المسيحيين؛ مما طوى صفحة هذا المخرج.
في الواقع، لم يأتِ أحد بقانون انتخابي يرضى عنه الجميع، لكن في الوقت نفسه يجمع اللبنانيون، حكاماً وأحزاباً ورأياً عاماً على أنه لا يجوز أن يصل الأمر إلى وقوع لبنان في فراغ دستوري إذا استمر رفض قانون الستين، ورفض تمديد مدة ولاية المجلس القائم مرة جديدة.
لقد عرفت الحياة النيابية في لبنان، منذ قيام الجمهورية اللبنانية أكثر من قانون للانتخابات النيابية كان واضعوها - سواء سلطة الانتداب أم رؤساء الجمهورية بعد الاستقلال، يسعون من ورائها إلى كسب أغلبية موالية لهم تدعم حكمهم أو سياستهم. بعض هذه القوانين نجح في توفير نوع من الاستقرار السياسي والوطني لمدة سنوات، وبعضها أوصل إلى أزمات وانقسامات سياسية وطائفية حادة. غير أنه لا بد من الاعتراف بأن المجلس النيابي الذي انتخب على أساس قانون الستين كان المؤسسة التي صمدت بوجه الحرب الأهلية، بل شكلت الركن الأساسي لما تبقى من الدولة اللبنانية، وساعدت على إنقاذ لبنان من محنته بموافقتها على اتفاق الطائف.
إن أخطر ما توصل إليه البعض هو ما سمي بالقانون الأرثوذكسي، الذي يعطي لكل طائفة في لبنان حق انتخاب نوابها؛ ففي ذلك خطوة نحو التقسيم، بل بالعكس، فإن مشاركة ناخبين مسلمين ومسيحيين في انتخاب نوابهم واحترام التقسيمات الإدارية التاريخية إنما هي القاعدة لتوحيد الكلمة الشعبية سياسياً ووطنياً ولبلورة حزبيات سياسية مشتركة بين الطوائف، معطوفاً على تطبيق اتفاق الطائف كاملاً؛ مما يشكل خطوة مهمة في طريق تحرير لبنان من الطائفية والمذهبية السياسية في المستقبل.
في الواقع وبكل صراحة، ليس هناك استحالة للعثور على قانون للانتخابات النيابية في لبنان إذا كانت الغاية منه تمثيل الشعب والمناطق، والقوى الحزبية، وروح الميثاق الوطني، واتفاق الطائف في آن معاً... لكن المشكلة هي في أن الخلاف الحقيقي هو على موازين القوى في المجلس النيابي المقبل، وتأثر ذلك بالصراعات الدائرة في المنطقة. فعسى يكمل السياسيون والأحزاب في لبنان الخطوة الوطنية الإيجابية الممثلة بالرئيسين عون والحريري، بوضع قانون انتخابي نيابي يدعم الوفاق الوطني، ويعزز دور المؤسسات الحكومية. ولا يكون قنبلة مؤجلة الانفجار.
وذلك يتطلب الكثير من الوطنية، وقليلاً من الحسابات السياسية والحزبية والطائفية المستقبلية.
7:51 دقيقه
TT
20
القانون الانتخابي اللبناني المستحيل؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة