د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الزجاج السوري المكسور!

لا أدري ما إذا كان تعبير «سرطان الزجاج» مستخدماً في كل الدول العربية أم لا، ولكن استخدامه في مصر يعني حالة تحدث لزجاج السيارة الأمامي ينتهي فيها إلى حالة من الشروخ الكثيرة والمتقاطعة التي تجعل الرؤية مستحيلة، سواء للسائق أو لهؤلاء الذين أتعسهم الحظ بالوجود معه. ولكن المشكلة الكبرى ليست فقط في حالة الرؤية، وإنما في حالة التهديد المستمر من سقوط الزجاج كله وتطاير أجزائه الصغيرة ومتناهية الصغر في كل الاتجاهات، فإذا أصابت العيون كان العمى، وإذا ما جاءت في الأجساد كان القطع والدماء النازفة. هي حالة جد خطيرة لا تعني بالضرورة نهاية وجود ركاب السيارة، وإنما وضعهم ليس فقط أمام الخطر، وإنما أمام أكبر اختبار لحكمتهم في التعامل مع الموقف الخطير، المهدِّد بأخطار أكبر.
سوريا الشقيقة تعيش هذه الحالة، وربما ما هو أخطر منها، ولكنها انكسرت إلى قطع صغيرة، ويكفي أن تنظر إلى الخرائط الذائعة في وسائل الإعلام المختلفة عن الواقع الحالي لسوريا، وسوف تجدها مقسَّمَة ليس إلى حكومة ومعارضة، أو إلى عرب وأكراد، أو سنَّة وشيعة، وإنما سوف تجد كلاً من هذه المستويات مقسمة هي الأخرى إلى قطع أصغر.
فالحكومة أو نظام الأسد ليس مطلق اليد إلا في منطقة محددة، وبعد ذلك فإن الإطلاق سوف يقل، لأن قوى أخرى تشارك فعلياً في السلطة والسيطرة. فحزب الله له قوات على الأرض، وهذه لا تتلقى أوامرها من دمشق أو من بيروت، وإنما من طهران مباشرة، التي تعطي توجهاتها الاستراتيجية لقواتها المباشرة على الأرض، مضافاً لها حلفاؤها من أنواع مختلفة.
وعندما دخلت روسيا إلى الحرب الأهلية السورية، فإن تحالفها مع الحكومة ليس إلا تحالفاً لا يحرم روسيا من السيطرة على قواعد جوية وبحرية وبرية أيضاً لها أتباعها والمتعاونون معها، ومن تقدم لهم العون والسلاح. الحكومة إذن ليست فقط قطعة من الزجاج في اللوح المكسور، وإنما هي تعبير قد يأخذ لوناً واحداً في الخريطة، ولكن بداخله ألوان متعددة.
المعارضة أيضاً ليست إلا عنواناً كبيراً، فتاريخياً كانت ممثلة بالقوى السياسية التي قادت «الربيع السوري» في درعا، ولكن هذه ممثلة في «الائتلاف السوري» لم يعد أحد يسمع بها كثيراً، ففيها يمين ويسار، وعسكر ومدنيون، وعلمانيون ومتدينون، وإخوان مقاتلون وغير مقاتلين، وأحياناً يُطلق على البعض منهم مجمعا القوى الديمقراطية أو التيار الديمقراطي الذي يضم أكراداً وعرباً بسبب الضغط الأميركي الذي يريد الاستناد إلى تجمُّع ما.
السنَّة موجودون في كل هؤلاء حكومةً ومعارضةً في ألوان مختلفة فاقعة وزاعقة، أما الشيعة، ففيهم الشيعة والعلويون، وهناك الدروز ومذاهب شتى أخرى.
باختصار، أصبحت سوريا مثل ذلك النوع من لَوْح الزجاج المكسور على الطريقة السرطانية، فيحجب الرؤية في السيارة، ويهدد دوماً بالانهيار التامّ، ما دام حجر صغير، أو «مطب» متواضع يمكنه أن يدمر السيارة كلها، بمن فيها. ولا يوجد حل لمثل هذه الحالة المهدِّدَة لحياة سوريا سوى بالحاجة الماسة إلى توقف السيارة والتقاط الأنفاس، وهو ما يُترجَم عملياً في الحروب إلى ما يُسمَّى الهدنة أو الوقف الفعلي لإطلاق النار. دون ذلك سوف يستحيل القيام بخطوتين مهمتين للتعامل مع الأزمة السورية: أولاً لصق الزجاج بنوع من «البلاستر» الشفاف، طولاً وعرضاً، بحيث تتحول قطع الزجاج الصغيرة إلى تجمُّعات ملتصقة مع بعضها، وهي في حالة وقف القتال تسمح بنوع من تبادل المصالح في بلد عزم كل من فيه على قتل الآخر. فالمقاتلون في النهاية بشر، ولهم احتياجات إنسانية أعياها الدخان والنار وهدم المدن على رؤوس أصحابها. ثانياً إحلال زجاج السيارة بلوح جديد من الزجاج، أي باختصار جعل العربة السورية جاهزة للسير مرة أخرى، بعد أن أصبح ممكناً مرة أخرى رؤية الطريق. هذه عملية ليست سهلة، وهذه تحتاج إلى متخصصين في نزع الزجاج المسرطن واستبدال زجاج أكثر صحة وشفافية به. المتخصصون في هذه الحالة (على الأغلب) هم جماعة الأمم المتحدة، ولكن التنظيم الدولي لا يعمل في فراغ؛ فالقوى العظمى (روسيا وأميركا تحديداً) لا بد لها من رأي، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتمسك روسيا بما تسميه القيادة «الشرعية»، وتتمسك أميركا بأنه يستحيل اعتبار مَن سقط في عهده من شعبه مئات الألوف من القتلى، وملايين من الجرحى، ومعهم جرى تدمير عشرات من المدن السورية.
كلتاهما سوف تتفق على ضرورة استشارة الشعب السوري من خلال صناديق الاقتراع، ولكن روسيا وسوريا لديهما قدرات فائقة في الحديث عن «السيادة» وعدم التدخل، بعد كل ما جرى، في الشؤون الداخلية السورية..!
القضية هكذا تصير أكثر تعقيداً مما يتوقع الجميع، وعملية الإحلال والتبديل للوح الزجاج المسرطَن لن يكون سهلاً ما لم يدرك الجميع أن التضحية بالسيارة كلها، ومَن فيها سوف يكون فيها دمار الجميع. فالقصة لن تنتهي أبداً وهناك جماعات «داعش» و«القاعدة» المتربصة بسوريا والعراق والمنطقة كلها، ولن يسلم الأمر من جماعات تتقاتل لأسباب متطرفة، أو لأن القتل لم يعد يحتاج إلى سبب بعد أن أصبح عادة. والتفكيك والتفكك سوف يعني أشكالاً مختلفة من الحروب الأهلية الصغيرة، أو حالة من «الصوملة» التي يحارب فيها الجميع كل الجميع... إنها الفوضى المقطرة والصافية. المسألة لن يكون لها حل إلا ويبدأ بالاعتراف بحق الجميع في ركوب السيارة، والتواضع بنظام ما يكفل هذا الحق من خلال التصويت المتوازن في القضايا المختلفة.
التجربة العربية تثبت لنا أن فكرة «المحاصصة» كما جرى تطبيقها في العراق كان لها نتائج كارثية، وثبت أن تطبيقها اللبناني ليس إلا حالة لبنانية استثنائية قادت إلى حالات صعبة من عدم الاستقرار، وغياب الدولة. الفكرة الفيدرالية قد تقدم حلاً من الحلول المركَّبَة التي تسمح بالمساواة بين الجميع من ناحية، والتعبير عن أثقالهم النسبية من ناحية أخرى. ويبقى للعملة والسوق الاقتصادية المشتركة وجيش الدفاع الواحد والسياسة الخارجية الواحدة القدرة على التربيط والتوحيد، خصوصاً أن الجميع ضد الإرهاب وضد «داعش» و«القاعدة» وأمثالهما من جماعات.
وللأسف، فإن البديل الوحيد للفيدرالية لن يكون إلا الفوضى الشاملة، وتصوُّر أن الديكتاتورية البعثية يمكنها أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه من مركزية قاسية هو حلم لن يتيسر لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.
المفتاح إذن لن يكون إلا من قبل المجتمع الدولي، وقواه الرئيسية، وإذا كنا قد تعلمنا من تقسيم «سايكس بيكو» في السابق، ومن تقسيم الحرب الأهلية في الحاضر، فربما كان التراضي على دولة اتحادية سوف يكون فيه صورة ممكنة في المستقبل. تجاهل كل ذلك سوف يجعل الزجاج المسرطن ينهار في وجه الجميع، ولن يبقى في يد أحد سوريا ولا قبض الريح!