سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

رحل القادم من قرية شتاء

جاء ديمتري يفغيني فتش يفتوشنكو في أعماق سيبيريا، ومعناها الشتاء. وماذا بربك كنت تتوقع أن تعني؟ وتوفي في تالسا، أوكلاهوما، حيث كان يدرس في جامعتها، الآداب والشعر. وماذا بربك كنت تتوقع من روسي، أن يكتب سوى الشعر، وأن يدرس سوى الشعر، وأن يحبَّ سوى الشعر؟
كان يفتوشنكو واحداً من المنفيين. أو المهاجرين، إذا شئت. تلك الأسماء الكبرى التي انشقت عن «الأم روسيا» وحملت شهرتها ودرامياتها إلى الغرب في القرن الماضي. ذاعت شهرة الشاعر عندما انضم إلى عهد نيكيتا خروشوف في نقد الستالينية. لكنه مثل خروشوف، ظل «ضمن النظام» حتى سقوطه. ويقول الشاعر المنفي الآخر جوزيف برودسكي إن يفتوشنكو لم يكن يرشق الحجارة إلا في الاتجاه المسموح. لكن في ذلك الكثير من حثالة الغيرة.
جميعهم هربوا من روسيا بسبب ستالين، بمن فيهم ابنته سفيتلانا، التي توفيت فقيرة ومنسية في الولايات المتحدة. لكن الرجال كانوا من طبقة الأساتذة والمحاضرين الكبار: فلاديمير نابوكوف، والكسندر سولجنتسين، ويفتوشنكو. وكان يقال في روسيا إن الشاعر أكثر من شاعر. ولذلك، قالت ناتاليا سولجنتسينا، أرملة سولجنتسين إن يفتوشنكو كان أكثر من شاعر. ولكن ليس بالمعنى الرمزي فقط، فقد كان أيضاً روائياً وأديباً غزير الانتاج. وقبل أن يقرر الهجرة إلى أميركا، حظي باحترام الزعماء السوفيات والروس، من خروشوف إلى غورباتشوف إلى بوتين.
بدأ مجد يفتوشنكو الشعري في القصيدة التي يقول فيها إن ستالين كان يتطلع خلسة من نعشه لكي يرى من هم الذين يحملونه إلى المدفن. إلى أن يقول: «لقد أزحناه من ضريحه، لكن كيف نخرجه من نفوس ورثته»؟
رأى فيه الاتحاد السوفياتي مادة دعائية جذابة، شاعراً ومعارضاً وعلى قيد الحياة. ولذلك، أرسله في جولات خارجية منها بعض العواصم العربية. وصفق له ستالينيو العرب على أساس أن الأمر لا يعنيهم، وأنه يلقي الشعر عن نوع آخر من السياسيين والحكام.
كان يفتوشنكو فناناً في إلقاء الشعر، ويدرك تماماً أن الشعر نصفه إلقاء. وقد استمعنا إليه في بيروت يعطي الأبيات صوراً وأشكالاً ولو في لغة لا نفهمها. لكنه كان أقل حضوراً وبراعة، بل سحراً من الشيوعي الآخر، ناظم حكمت، الذي بدا في أمسية «الندوة اللبنانية» مثل فرقة فيلهارمونية متعددة الآلات، أحببنا نغمها ولم نفهم من غنائها شيئا إلا ما قرأناه مترجماً. وحتى في الترجمة، كان شعر ناظم حكمت جميلاً وخلباً. ولولا طغيان السياسة كلياً على عطائه، لما أبقى القرن العشرين الشاعري لليوناني المصري قسطنطين كفافيس، والبرتغالي فرناندو بيسوا، ممن سحروا القرن بلغة غير رئيسية، كالإسبان والإنكليز والفرنسيين.