عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

ما الذي يجري بين السودان ومصر؟

أخطر ما يمكن أن يحدث للعلاقات بين السودان ومصر أن تتحول الخلافات السياسية المعلنة أو المستترة إلى تراشقات تسيء إلى الشعبين، وتستفز مشاعر الناس أو كرامتهم الوطنية. فالخلافات السياسية يمكن حلها متى ما تغلب العقل، لكن التراشقات والإساءات التي تمس الشعوب تترك جروحاً غائرة لا تندمل بسهولة، وقد تبقى في الوعي الشعبي مثل النار تحت الرماد التي يمكن أن تشتعل مع أي هبة رياح.
لهذا السبب فإن أزمة التراشقات التي اندلعت في الفضاء الإنترنتي، وامتدت إلى بعض الإعلام في البلدين أخيراً، كانت أمراً مزعجاً ومقلقاً لكل عاقل حادب على أواصر علاقات مميزة ضاربة في القدم، متجذرة بعلاقات الدم والرحم وكثير من الروابط والمصالح المشتركة. قبل عصر الإنترنت وثورة وسائل التواصل الاجتماعي كان احتواء أي تراشقات أمراً سهلاً يتم بقرار سياسي يعمم على وسائل الإعلام، أما اليوم فإن السيطرة على ما يندلع في الفضاء الإنترنتي ومنصات التواصل الاجتماعي أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، خصوصاً أنك في بعض الأحيان لا تعرف من الذي يمكن أن يدخل متخفياً ليؤجج.
بسرعة شديدة انتشر كثير من الكلام المؤذي والسخيف خصوصاً بعد الزيارة التي قامت بها الشيخة موزا بنت ناصر المسند، حرم أمير قطر السابق ووالدة الأمير الحالي، إلى منطقة أهرامات مروي في البجراوية بشمال السودان. فقد خرج بعض «الإعلاميين» الذين امتهنوا أسلوب الصراخ والتأجيج، ليجعلوا من زيارة يفترض أن تكون عادية لمواقع تاريخية، مناسبة للردح والسخرية، لا من الآثار فحسب، بل من السودان وتاريخه. سمعنا مذيعاً في قناة تلفزيونية مصرية يصف هذه الأهرامات بـ«علب النستو»، ومذيعاً آخر يضحك وهو يقول إنها ليست أهرامات بل «جبنة مثلثات»، وثالثاً يتجول بالكاميرا والميكروفون في الشارع، ليسأل الناس عما إذا كانوا سمعوا قبل ذلك أو عرفوا عن أهرامات في السودان أو عن «الفرعون الأسود».
لم ير أو يفهم هؤلاء هذه الآثار على حقيقتها كشاهد على التاريخ الممتد والمترابط بين البلدين، بل حولوها إلى مادة للتندر. وسرعان ما تحول هذا الكلام السمج وغيره إلى مادة للتداول والتعليقات العجيبة والمسيئة من البعض في مواقع التواصل الاجتماعي. وبالطبع انبرى السودانيون الذين استفزهم الكلام واعتبروه إهانة ومحاولة للتقليل من شأن بلدهم وتاريخه، للرد بكلام كان بعضه أيضا جارحاً وغير موفق، وتدخل في السجال نواب في مصر ووزير الإعلام في السودان الذي صب زيتاً على النار أيضاً عندما قال إن آثار السودان أقدم من آثار مصر، وإن «فرعون موسى كان أحد الفراعنة السودانيين الذين حكموا مصر».
في خضم هذا التأجيج عادت قضية مثلث حلايب الحدودي إلى السطح مجدداً، عبر إعلان السودان عن تشكيل لجنة لوضع «خريطة طريق بشأن كيفية إخراج المصريين» من المثلث. فأزمة حلايب أصبحت مثل الترمومتر في علاقات البلدين، تثار عندما تتأزم العلاقة، وتنسى عندما يمر التوتر. وفي تقديري أن فتيل هذه الأزمة يجب أن ينزع نهائياً حتى لا يبقى سحابة معلقة باستمرار في سماء العلاقات، وذلك بإحدى طريقتين: التحكيم الدولي، أو باتفاق يحول المثلث إلى منطقة تكامل حقيقي وتجارة حرة بين البلدين، يتعايش فيها المواطنون بغض النظر عما إذا كانوا يحملون هويات مصرية أو سودانية.
حكومتا القاهرة والخرطوم لا بد أن تكونا استشعرتا خطورة أزمة التراشق الأخيرة، لذلك سعتا إلى التهدئة عبر مشاورات بين وزارتي خارجية البلدين، أعقبها بيان يرفض التجاوزات غير المقبولة أو الإساءات لأي من البلدين أو الشعبين «تحت أي ظرف من الظروف، ومهما كانت الأسباب أو المبررات». وهذه خطوة محمودة ومقدرة، لأنها تؤكد ضرورة حماية العلاقات التاريخية من الآثار الطائشة للحملات الإعلامية والتراشقات المؤذية. هذا لا يعني أنه لا توجد خلافات، فالمتابعون لمجريات الأمور يعرفون أن هناك توترات وخلافات سياسية تحت السطح، وأن العلاقات تتأثر أيضاً بالتجاذبات والصراعات الإقليمية الدائرة حالياً، مثلما أن هناك شكوكاً مرتبطة بطبيعة النظامين في البلدين وملف حركة الإخوان.
في ملف التوترات أيضاً موضوع سد النهضة الإثيوبي الذي يثير قلق مصر، ولا تلتقي حوله وجهات نظر الحكومتين في القاهرة والخرطوم. فمع اقتراب حكومة البشير من إثيوبيا في هذا الملف، تحركت مصر باتجاه أوغندا وإريتريا وجنوب السودان، مما أثار ارتياب الخرطوم التي راقبت بقلق اجتماعات الرئيس السيسي مع رئيس جنوب السودان سلفا كير الذي يخوض حرباً مريرة مع معارضيه، وتمر علاقاته بالحكومة السودانية بتوتر شديد.
كل هذه التوترات موجودة، وتنعكس على العلاقات السياسية، لكنها كلها قابلة للحل والتفاهم متى ما صفت الأجواء. المهم ألا تنزل الخلافات إلى مستوى التراشق الذي يسيء إلى الشعوب أو يضر بالعلاقات التي توصف دائماً بأنها «أزلية وتاريخية»، وهي بلا شك أكبر وأهم من أي خلاف طارئ.