خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أحكام الوسطية وحكمياتها

تتمسك الآن في هذه الأيام معظم الحكومات والأحزاب السياسية شرقاً وغرباً بفكرة الاعتدال والوسطية. صدق ذلك بصورة خاصة بعد سقوط الفاشية والنازية وأخيراً الشيوعية. وقد اهتدى لذلك الفلاسفة والمفكرون منذ عهود سحيقة. وكان منهم أرسطو الذي قال: النزاع بين الإخوة قسوة. وهذا ما نشاهده أمام عيوننا في كثير من الدول العربية والإسلامية التي مزقتها المنازعات بين الإخوة. ومن تراثنا العربي القول القائل: «إذا عز أخوك فهن». وهو ما عرفناه أيضاً من القول القائل: «أرخِ إذا شددوا واشدد إذا أرخوا». والمفروض في المسلمين أن يتذكروا أن الله يحب العبد الهيّن الليّن السهل.
امتدت هذه المبادئ والأحكام وترددت في كثير من التراث الشعبي. ففي المملكة العربية السعودية يرددون: «الثوب ما ينشق بين عاقل ومجنون». وبموازاة ذلك شاعت أمثال وأقوال شعبية كثيرة في دنيا العرب. تسمعهم يقولون: «هوّنها تهون»، بمعنى تساهل وخذ بالحل الوسط للنزاع. يقولون في الكويت: «خذ ما تيسر وخلّ ما تعسر». وهو المبدأ الذي دعا إليه الحبيب بورقيبة في تونس: «خذ وطالب».
من هذه الأمثال الكثيرة التي تحث على الوسطية قولهم في بلاد الشام: «كون مطر بيروي ولا تكون نار بتكوي». أرجو أن يضع المتفاوضون قريباً هذه الكلمات أمامهم في بطاقة على طاولة المحادثات. وعبر الحدود تسمعهم في لبنان يقولون: «ضاقت الدنيا على المتخاصمين». وهو ما يوازيه في ليبيا القول الدارج: «الرجال تتلاقى والجبال ما تتلاقاش». وتسمعهم في السعودية أيضاً يقولون: «لا تقبض أخوك من يده اللي توجعه».
أما القول العربي القديم الذي سبق وأشرت إليه: «إذا عز أخوك فهن»! فترجع حكايته لهذيل بن هبيرة التغلبي. وكان هذا قد أغار مع قومه على بني ضبة وعاد منهم مثقلاً بالغنائم، فطالبه أصحابه بأن يقاسمها بينهم فقال: إني أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب. فأبوا وأصروا على القسمة فوراً. فقال عندئذ: «إذا عز أخوك فهن»، فأرسلها مثلاً. ثم نزل من على جواده وقسم الغنائم بينهم.
وكان قد قال ابن أحمر قولاً مشابهاً في هذا السياق:
دببت له الضراء وقلت أبقى
إذا عز ابن عمك أن تهونا
ويستشهد بطرس البستاني ببيت آخر في هذا المعنى والمقصد فيقول:
لك العز إن مولاك عز وإن يهن
فأنت لدى بحبوحة الهون كائن
ومن الضروري أن نتذكر قي هذا الصدد أن الهون (بالفتح) هو السكينة والوقار وما أتينا على ذكره من مفاهيم الاعتدال والوسطية. وكله على خلاف الهون (بالضمة) فيعني الهوان والخزي والمذلة، كما جاء في قول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام