سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

المعنى الأميركي لحقوق الإنسان!

نظرة هادئة على تفاصيل التقرير الأميركي الأخير لحقوق الإنسان، تقول إن علينا في المنطقة العربية أن نلفت انتباه الأميركيين إلى أن تقريرهم المنتظم، لا بد أن يتطور في فهمه لحقوق الإنسان، بصفته قضية، لأن مفهومها أوسع بكثير من المفهوم المعتاد في التقرير، ولأن النظر إلى القضية في إجمالها، لا بديل عن أن يكون أعم!
التقرير بدأ في أيام الرئيس جيمي كارتر منتصف السبعينات، ومنذ ذلك الوقت وهو يصدر سنوياً، ويصاحبه في العادة ضجة كبيرة، وصخب أكبر، ليس لأنه يتكلم عن قضية مهمة مثل قضيته، ولا لأنه يكشف عن أسرار وخفايا حول حقوق الإنسان بامتداد العالم، ولكن لأنه يأتي في أغلب أحواله تقريراً انتقائياً، مُسيّساً، راغباً في أن يكيد لحكومات بعينها!
تقرأ فيه، سنة تلو أخرى، فلا تقع إلا على كلام من نوعية استخدام الشرطة المفرط للقوة مع المتظاهرين، أو الاعتقال الذي قد تمارسه حكومة عربية هنا أو هناك، في حق أفراد من بين مواطنيها، أو التعذيب الذي قد يرتكبه البوليس في حق مواطن رهن الحبس، أو التضييق الذي قد يقع من الأجهزة المعنية تجاه ناشط سياسي... أو صاحب رأي... أو صاحب فكر!
لا جدال بطبيعة الحال حول أهمية هذا كله، ولا نقاش في أن جميع هذه الصور من الممارسات الحكومية السلبية في حق بعض مواطنيها مرفوض، ولا يجوز السماح به، ولكن حقوق الإنسان، خصوصاً في هذا العصر، تمتد لتشمل ما هو أعمق بطبيعته!
الإنسان في القرن الحادي والعشرين، وحتى فيما قبل القرن الحادي والعشرين، له حقوق أخرى تمثل الأساس في كيان كل مواطن يعيش على أرض بلده، وتتصل ببناء يتراكم في كيانه طول الوقت، ولا بد من أن تكون مُرتبة لدى حكومته بحساب!
لقد خاض الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، انتخابات الرئاسة في مطلع تسعينات القرن الماضي، وكان وهو يخوضها قد طرح شعاراً لحملته الانتخابية، أتصور أنه كان الشعار الأصوب، إذا ما دخل في مقارنة ليس فقط مع شعارات منافسيه في الانتخابات، ولكن على مستوى كل الذين جاءوا من بعده، وخاضوا السباق نحو البيت الأبيض، وقالوا إنهم يملكون بصفتهم مرشحين ما هو مختلف!
كان شعار كلينتون هكذا: «الإنسان أولاً»!
وربما لهذا السبب كانت فترة وجوده في البيت الأبيض الأكثر رواجاً، على مستوى أداء الاقتصاد الأميركي، ثم كانت الأقوى إنجازاً في تعاملها مع الإنسان، من حيث هو إنسان، ومن حيث واجب إدارته تجاه المواطنين وهي ترتب أولويات عملها، وفق نظرية الأهم، فالأقل أهمية!
لم يكن شعار كلينتون يقلل من شأن الحقوق المدنية، ولا كان يقول إن الحقوق السياسية لا أهمية لها، ولكنه كان يقول بكل لغة مفهومة، إن هناك شيئاً اسمه الحقوق الاجتماعية، وإن هناك أشياء اسمها الحقوق الاقتصادية، وإنها معاً، وبكل أنواعها، تمثل جوهر الإنسان، وإن الحكومة الجادة في بناء مستقبل رعاياها، هي التي تظل تتطلع إلى حق كل مواطن عليها، على أساس من هذا المفهوم الشامل!
وقد كان المتصور أن يأخذ التقرير الأميركي منحى آخر، مع وصول كلينتون إلى مكتبه البيضاوي، فلا يظل في كل عام يلوم الحكومات، وقد يُقرعها، على تقصيرها فيما هو مدني أو سياسي من الحقوق، فقط، وإنما يقول لها بأفصح لسان، إن للمواطن حقاً أصيلاً في أن يتلقى خدمة تعليمية عالية الجودة، وإن له حقاً موازياً في أن يحصل على خدمة علاجية جيدة، وإن هذا وحده هو ما يفرق، من حيث حصيلته في النهاية، بين بلد ناهض متطور، وبلد آخر لا يرغب في أن ينهض ولا في أن يتطور!
تعود لتقرأ في التقرير، سواء نسخة هذا العام، أو نسخة أي عام مضى، فتكتشف أن الهدف من صدوره، بل من انتظامه، يبدو وكأنه إحراج هذا الحكومة في المنطقة، أو تلك، وأن حقوق الإنسان بالمعنى الظاهر في شعار كلينتون، أو بالمعنى الواجب عند النظر إلى آدمية الإنسان، ليس هو الهدف، ولا هو الذي من أجله وفي سبيله، صدر ويصدر التقرير في موعده، فلا يتأخر عنه، ولا يغيب!
واللافت أن إدارة الرئيس دونالد ترمب تعاملت مع تقرير هذا العام، بطريقة تشير إلى أنها تعرف أنه تقرير سياسي، لا حقوقي، ولا إنساني، فلقد غاب وزير خارجية ترمب عن مؤتمر إعلانه، ولم يكن شيء مماثل يحدث من قبل... صحيح أنه تقرير منسوب كله إلى إدارة أوباما، لأن إعداده بالكامل جرى في ظل وجودها، ولكن هذا لا ينفي أن شبه التجاهل الذي تعاملت به الإدارة الأميركية الجديدة مع التقرير، ومع مناسبة إعلانه، تقطع بأن مسألة تسييسه ليست غائبة عن أركان إدارة الرئيس ترمب!
حقوق الإنسان ليست رداء نلبسه، ليتبدل لونه وشكله من يوم ليوم، ولكنها مضمون يكون موجوداً... أو لا يكون!