باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

عالم ترمب وبوتين

بعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض وتصريحاته الحادة، وبعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود الأحزاب القومية اليمينية في أكثر من بلد، وخصوصاً بعد ما حدث ولا يزال يحدث من صراعات وطنية وإقليمية ودولية متشابكة في الشرق الأوسط... لا يجوز سوى التسليم بأن العالم يشهد تحولات كبرى جديدة لم تنجلِ كل معالمها وأبعادها بعد، ولكنها «خربطت» لعبة الأمم واستراتيجياتها دول كثيرة، بحيث إنها أخرجتها عن القواعد والأهداف التي وضعتها وطبقتها، طوال عقود.
عبارة «خربطة» عامية وتعني دفع الأشياء أو الأمور عن مواقعها السابقة وجعلها تتشابك وترتسم وتتفاعل بأشكال جديدة. أما العبارة المتوجبة بعد «الخربطة» فهي «التزبيط» (وهي أيضاً عامية)، وتعني إعادة الأمور أو الأشياء إلى طبيعتها ومواقعها السابقة، أو تركيزها في مواقع جديدة واضحة وثابتة... ولم يعد سراً أن ما يحدث اليوم في واشنطن وموسكو، وفي سوريا والعراق وليبيا، وفي الاتحاد الأوروبي يشكل مشهداً جديداً في العلاقات والنزاعات الدولية، وأن وجود ترمب وبوتين في البيت الأبيض والكرملين وأمثالهما في دول مهمة أخرى، ربما لا يسهل كثيراً إعادة الأمور والأشياء إلى ما كانت عليه قبل سنوات قليلة؛ بل من شأنه أنه قد يزيد «الخربطة خربطة» ويدفع بالعالم نحو مزيد من الصراعات السياسية والمسلحة.
إن العالم في العقود والسنوات الأخيرة إنما كان مدفوعاً أو مندفعاً نحو آفاق من التوحد والتعاون فرضته الاكتشافات المذهلة في مجال التواصل الاجتماعي، وحتمية التعاون بين كل دول العالم لمواجهة المخاطر البيئوية، ونشوء عدد من المنظمات والمؤسسات والمعاهدات الدولية في ميادين عدة... فما الذي حدث، بالضبط، لكي «تنقلب الآية» - كما يقال - وتتراجع محفزات التعاون والتقارب بين الدول، بل وبين البشر أبناء الوطن الواحد، فتنشب حروب أهلية هنا، وينتشر الإرهاب هناك، وتقام الجدران بين الدول المتجاورة، وتستيقظ النعرات الدينية والطائفية والعرقية، بل وتتحول إلى تقاتل دموي وتشريد مئات الألوف من بيوتها ومدنها؟
بعد الحرب العالمية الثانية عاش العالم ما سمي بالحرب الباردة طوال عقود انتهت بسقوط حائط برلين، ومن ثم سقوط نظام الاتحاد السوفياتي والشيوعية معه. وقيل إنها نهاية التاريخ، وإن النظام الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي هو النظام الأنسب للعالم. وتحولت عشرات الدول الاشتراكية باقتصادها نحو هذا النظام. ولكن بدلاً من أن تتقارب مصالح الدول عبر هذا المعطى العالمي الجديد رأينا الربيع العربي - مثلاً - يتحول من انتفاضة شعبية تطالب بالحرية والعدالة إلى نزاعات دموية. ورأينا الاتحاد الأوروبي الذي كان مثلاً يحتذى في التعاون والتقارب بين الشعوب، يهتز ويفقد ديناميكيته وتجهز عليه واشنطن ولندن. كما شاهدنا الرئيس الروسي بوتين يتدخل مباشرة وعلناً في سوريا مضيفاً إلى الصراع القائم فيها بعداً دولياً يزيدها تعقيداً.
ثمة من يقول إن ترمب وبوتين وغيرهما من القادة القائلين بتغيير الأمور وحماية المصالح القومية لبلادهم، وعدم التساهل مع ما أو من يهددها، لا يشكل الخطر الذي يخشى منه على الدول الصغرى أو على السلام في العالم، وأن استجابتهما لمخاوف شعوبهما وحساسياتها لا يعني الاستسلام لها ودفع العالم إلى حرب عالمية ثالثة، أو إلى صراع حضارات من نوع جديد. ربما. ولكن الأمور قد تفلت من أيديهما كما حدث في عام 1939. عندما وجدت فرنسا وبريطانيا نفسيهما تعلنان الحرب على هتلر.
بوتين ليس هتلر جديداً، ولا ترمب تشرشل آخر. ولكن إلى أن يتفق الفريقان على الخريطة الجديدة للعالم التي تراعي مصالحهما أو لا تهددها، فإن تمزق المجتمعات العربية مستمر ومحتدم، ومتفاقم. وقد يطول، لا سيما أن هناك أكثر من فريق إقليمي أو دولي له مصلحة في أن يستمر ويتفاقم ويطول، ولا داعي للتسمية.
إلا أنه يبدو أن الرئيس الأميركي، رغم تصريحاته المقلقة يعتقد سراً بأن نوعاً من التفاهم بين واشنطن وموسكو من شأنه أن يحلحل الأمور، ويسهل مقاومة الإرهاب، ويوقف التقاتل الذي يمزق دول الشرق الأوسط. ربما. ولكن بأي ثمن؟ ومن سيدفعه؟