خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تبادل السخرية بين عالمين

اعتاد الأوروبيون السخرية من المجتمع الأميركي بكونه حديث النعمة، عديم الحضارة، ضئيل التاريخ، وقاسي القلب، ونحو ذلك. ويرد الأميركيون على ذلك بكون الأوروبيين شحاذين وكسالى ويعتمدون على أميركا في الحرب والسلم. كان من قادة هذه الحملة الكاتب الأميركي الساخر مارك توين. قرر الطواف في العالم القديم، وعاد وكتب كتابه الشهير «أبرياء في الخارج»، الذي أصبح من أشهر الكتب السياحية. وبيعت منه ألوف النسخ حال صدوره. وصف إحدى المدن الإيطالية بهذه الكلمات:
«إنها أحسن عش للقذارة والحشرات والجهل مررنا بها، باستثناء بعض مدن الشرق التي تعطيك صورة من الجحيم. يعيش الناس في أزقة لا يتجاوز عرضها المترين وتغمرها رائحة عجيبة، ولكنها كريهة. الحمد لله أن هذه الطرق غير عريضة لأن فيها من الروائح كمية بالكاد يتحملها الإنسان. لو كانت أعرض مما هي لمات الناس منها. وهؤلاء تغمرهم الوساخة في وجوههم وثيابهم ونفوسهم. وعندما يرون شخصاً يلبس قميصاً نظيفاً ينظرون إليه باحتقار. أما النساء فتجدهن يقضين نصف النهار في غسل الملابس في صهاريج عمومية في الطرقات. وهذه الملابس على الأكثر تعود لأشخاص آخرين. وأعتقد أن عندهن ثوباً للبس وآخر للغسل. فلم ألاحظهن يلبسن أي ثوب نظيف مغسول».
ينتقل مارك توين بعد ذلك للكلام عن سكان مرسيليا، فيقول إن فكرتهم عن النظافة فكرة مسرحية تعلموها من كتب الأسفار، فحياتهم لا تختلف في شيء عن حياة القردة في الغابات. وقد ذكَّره ذلك بما قرأه عن الكاتب الفرنسي بلوشير الذي اضطر لتوجيه رسالة إلى مدير الفندق الذي سكنه في باريس:
«سيدي مدير الفندق، لماذا لا تضع قطعة صابون في غرفتي؟ أتعتقد أنني سأسرقها؟ وقد حسبت علي عن الليلة الماضية ثمن شمعتين في حين أنني لم أستعمل غير شمعة واحدة. كما حسبت علي ثمن آيس كريم في حين أنني لم أذق عندك أي آيس كريم. كل يوم تلعب علي لعبة جديدة. الصابون شيء مهم في الحياة لكل البشر، ولكن باستثناء الفرنسيين»!
يقول مارك توين إن هذا الكاتب الفرنسي القدير توفي وضاعت آثاره بعد قليل. ويقول الناس إنه قد مرض ومات. ولا عجب!
زاره عدد من الصحافيين الإنجليز. «استبشر أحدهم عندما رآني، وقال إنه كان يعتقد أنني قد مت. وقد وردته برقية من نيويورك تستفسر عن أحوالي. وذكروا أن الإشاعات في نيويورك تقول إنني قد متّ. وسألني كيف يجيب عن تلك البرقية. قلت له: إن خبر وفاتي هذا مبالغ فيه كثيراً»!
أصدرت الصحيفة التي نشرت خبر وفاته، تصحيحاً في اليوم التالي بهذه العبارة الظريفة «إن خبر وفاتي كان مبالغاً فيه». ومن يومها أصبحت العبارة من أظرف ما كتبه أو نطق به في حياته مارك توين، وشاعت عالمياً إلى يومنا هذا.