علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

مجانا.. ضمانة للفشل

عقدي مع الثقافة الجماهيرية كان قيمته 500 جنيه مقابل إخراج عرضين مسرحيين خلال ستة أشهر، الأول كان «بير القمح + أغنية على الممر»، والثاني كان «الراجل اللي ضحك على الملائكة» الذي عرض قبلها بسنة في مسرح الحكيم، أي في موسم 1966 من إخراج نجيب سرور، لم يكن يجب أن تضيع مني دقيقة واحدة؛ لذلك طلبت من محجوب عبده، مدير القصر، أن يدعو كل هواة المسرح في أسوان إلى لقاء معي في المساء، وهذا ما حدث بالفعل، كان نقاشنا عاما حول المسرح والمتاعب التي تواجههم في أسوان، كانت شكواهم الأساسية هي أن الناس لا تأتي إلى هذه العروض، وكان رأيي أن الناس لا تقبل على العروض المجانية، لا بد أن يدفع المتفرج ولو قروشا قليلة ليحترم العرض المسرحي، كل ما هو مجاني في الحياة لا يستحق الحفاوة به، من الممكن أن تكون ليلة الافتتاح فقط مجانية، فقال أحدهم: هم حتى لا يأتوا إلى عرض الافتتاح.
أوضحت لهم أنه لا بد أن يكون للعرض شباك تذاكر، وأننا يجب أن نعمل كالفرق المحترفة، هذا إذا أردنا أن ننجح، الواقع أنني طوال النقاش كنت منشغلا بأمر آخر وهو دراستهم عن قرب والاستماع جيدا إلى أصواتهم وطريقتهم في التعبير عن أنفسهم، كنت في واقع الأمر أقوم بعملية توزيع لأدوار المسرحيتين (casting) وفي نهاية اللقاء قلت لهم: حسنا أيها السادة، لقد اخترت من بينكم عددا من الأشخاص، وأرجو في أقرب فرصة أن نعمل جميعا معا.. فلان، ستلعب دور كذا.. فلان ستلعب دور كذا..
وبعد أن عرفت ظروف أعمالهم حددت موعد التدريبات بحيث لا تتعارض معها، وفي اليوم التالي لوصولي إلى أسوان بدأت التدريبات على العرض الأول، خصص لي مدير القصر غرفة في الدور الثاني، كان بها ثلاجة قديمة وجهاز تكييف في حالة سيئة، ولكن أجمل ما فيها هو أنها تطل على نيل أسوان. الواقع أن النيل في أسوان ليس هو هذا الذي تراه في القاهرة، النيل هناك بخيره بغير رتوش أو تدخل من البشر.
غير أن المسرح ليس تأليفا وإخراجا فقط، هناك الديكور والملابس والإكسسوار، وهناك أيضا الموسيقى المصاحبة للعرض، وهناك المصاريف الإدارية مثل اللافتات وطبع التذاكر ودفاتر البردروه، إذا لم تكن من أهل المهنة فلا شك أنك لا تعرف ما هو دفتر البردروه، إنه الدفتر الذي يتم فيه رصد التذاكر المبيعة كل يوم، وهو دفتر معتمد من ضريبة الملاهي التي ستراجعه مع التذاكر المبيعة كل يوم. لا بد أنك تسأل نفسك الآن من أين عرف هذا المؤلف المغامر حكاية التذاكر والبردروه هذه؟ لا بأس.. في الأعوام 1953 - 1956 عملت في شباك التذاكر في سينما فاتن برأس البر وسينما اللبان في دمياط، كل خبرة تمر بها أو تمر بك، تكسبك شيئا ستكون في حاجة إليه يوما ما. واقع الأمر، لقد مارست كل الأعمال المطلوبة في المسرح، حتى الفتونة في مواجهة هؤلاء الذين يريدون إفساد العرض المسرحي أو السينمائي. ولكن ماذا عن تكلفة الإنتاج؟
لقد قلت لهم في القاهرة إنني سأقوم بتدبير نفقات الإنتاج محليا من محافظة أسوان، وفي المقابل، أنا أريد منهم شيئا واحدا.. إعلانا في الجرائد اليومية الثلاث لمدة يومين، غدا الافتتاح الكبير، ثم اليوم الافتتاح الكبير. كانت هذه هي المرة الأولى في الثقافة الجماهيرية.. خطوة على طريق الاحتراف.