فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

من ينقذ الشعر منا؟

يتحدث علماء الاقتصاد عن التطور غير المتكافئ حتى في حدود البلد نفسه، بين المدن الكبيرة والصغيرة، وبين هذه الأخيرة والريف، ويعزون سبب ظهور الشعبوية وازدهارها المفاجئ لهذا التطور غير المتكافئ الذي تراكم عبر السنين، حتى عبر عن نفسه بشكل مشوه. وإذا حاولنا تطبيق ذلك على ثقافتنا المعاصرة، نستطيع أن نقول إننا نعيش «تطورا» غير متكافئ في صناعتنا الإبداعية. وهو تطور مشوه، لأنه غير طبيعي، ولا يمكن أن يؤدي إلى ازدهار حقيقي في ثقافتنا المعاصرة، بل إلى خراب.
ومناسبة هذا الحديث، هو ما نسميه «الطفرة الروائية»، في مقابل انحسار ديوان العرب، في زمن قياسي، ومن دون أي مقدمات منطقية. كيف انتقلنا فجأة من زمن الشعر إلى زمن الرواية؟ نشهد الآن كتب الشعر مركونة في زوايا المعارض والمكتبات، وقل من يتصفحها، أو يتفقدها، بينما تحتل الرواية الواجهات. وأكثر من هذا يبدو حتى الشعراء أنفسهم قد هجروا الشعر إلى الرواية، وهي ظاهرة جديدة في المشهد الثقافي العربي، وحتى العالمي. وبالطبع، لا نستطيع أن نستبعد الدوافع غير الفنية وراء مثل هذه الظاهرة. فالجوائز المخصصة للرواية، وخاصة «جائزة بوكر العربية للرواية العالمية» - لماذا العالمية؟ لا نعرف - وإغراءاتها بالشهرة والنجومية والترجمة و «وهم العالمية»، من الأسباب القوية لهذا التحول، لأنك قد تستطيع، إذا حالفك الحظ، أن تحصل على كل ذلك من خلال عمل واحد، بينما قد لا يحقق لك الشعر شيئا خلال حياة كاملة.
ودخلت في هذه الحمى، التي تتكرر كل سنة، دور النشر طبعا، التي تتسابق على طبع الروايات، وزجها في سوق المنافسة. وإذا لم تفز رواية ما في هذه الجائزة، فيمكن أن يكون حظها أوفر في مسابقة أخرى، وما أكثرها وأسخاها!. وإذا أخذنا جائزة كتارا مثلا، فسنرى أنه لم يبق أحد لم يفز بها في دورتها الأخيرة، التي ضمت فروعا مختلفة لا يمكن تعدادها، وأصبح من المحتم أن يصيبك سهم منها.
كم دار نشر في الوطن العربي؟ لا نملك إحصائية، ولكنها بالمئات بالتأكيد. كم دار نشر تطبع الشعر؟ إنها تكاد تكون معدومة. وإذا لم تدفع، فلن تجد دارا «تضحي» وتطبع لك شعرا، إلا فيما ندر، ولاعتبارات معينة.
في بلد مثل بريطانيا، التي نستشهد بها لأننا نعرفها نسبيا أكثر من غيرها، هناك دور متخصصة فقط بطبع الشعر مثل «بلودأكس»، بالإضافة إلى الدور العريقة مثل دار «بنغوين»، و«ليبر آند ليبر»، التي لم تتوقف مرة واحدة طوال تاريخها العريق عن طباعة الشعر؛ بحجة قوانين السوق، كما يفعل قسم من ناشرينا العرب للأسف، إلى جانب الاهتمام بكل الأنواع الأدبية الأخرى، ومنها الرواية، المخصصة لها عدة جوائز وأهمها مان بوكر.
وأكثر من هذا، لا تكف هذه الدور عن إعادة طبع أعمال الشعراء الكلاسيكيين منذ القرن السابع عشر، بطبعات فاخرة، وأخرى شعبية ومبسطة لجمهرة القراء، وخاصة الشباب، خالقا بذلك تواصلا مستمرا بين القديم والجديد، بالإضافة إلى الجوائز المخصصة للشعر، كجائزة تي. إس. إليوت، التي قد تكون أهم جائزة للشعر في العالم الغربي.
لقد توهمنا كثيرا بأن حضارة الغرب الصناعية ستؤدي إلى موت الشعر، ولكن حصل العكس تماما. الشعر يزدهر هناك، ويموت أو يكاد عندنا. أين دواوين امرئ القيس، وطرفة، وجرير، والمتنبي، وأبي تمام، وأبي العلاء بطبعات مبسطة لجيلنا الجديد؟ وأين دواوين شعرائنا المحدثين؟ هل فكرنا مرة بتخصيص جوائز حقيقية للشعر تحمل اسم روادنا المعاصرين على الأقل كالسياب والبياتي ونازك الملائكة وعبد الصبور؟ ثم، نتساءل بعد ذلك، لماذا يموت الشعر عندنا؟ لا نعول كثيرا على دور النشر الخاصة في تدارك هذا الوضع المفجع، وإنما نحن بحاجة إلى مؤسسات كبيرة غير ربحية تعيد التوازن لحياتنا الثقافية، وتبعث الحياة في تراثنا الشعري الضخم، الذي نكاد ننساه، وثروتنا الشعرية المدفونة تحت أقدامنا. عدم العمل على تلافي ذلك، سيكون بالفعل خطيئة كبرى ليست ثقافية فقط، وإنما خطيئة حضارية وجمالية وروحية كذلك، فلم يعرف التاريخ أمة تستحق لقب أمة حية من دون الشعر.