فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الحب في عالمنا السائل

كان المفكر الأميركي مارشال بيرمان يقول إن كل ما هو صلب يذوب في الهواء، وقد اتخذه عنوانا لكتابه المهم عن الحداثة، الذي ترجمه قبل سنوات طويلة فاضل جتلر إلى العربية. والحقيقة أن هذه العبارة وردت أول ما وردت في البيان الشيوعي الذي أصدره كارل ماركس وفريدريك إنجلز عام 1848، وفيه توقعا أن الرأسمالية ستتطور لتصبح نظاما عالميا، فالرأسمال، نتيجة التطور الصناعي الهائل آنذاك لا بد أن يجتاز الحدود، مؤسسا بذلك سوقا عالمية قد لا يستطيع أحد السيطرة عليها لأنها تعمل حسب قوانينها الذاتية غير الخاضعة لأي منطق. ليس ذلك فحسب، بل إنه سيخلق بالضرورة ثقافته الخاصة، التي ستصبح فيما بعد ثقافتنا جميعا في فترة تاريخية معينة قد تطول كثيرا، وقد طالت، لأن الرأسمالية قادرة على تجاوز أزماتها بسبب حيويتها، وقدرتها على إنتاج حاجات جديدة دائما.
بين هاتين الفكرتين تقريبا يدور كتاب «الحب السائل» لزيجمونت باومان، ترجمه إلى العربية حجاج أبو جبر عام 2016، رغم أنه لا يشير إلى مصدريهما.
وإذا كانت الحداثة الصلبة، بمركزيتها الأوروبية وتحويلها الإنسان إلى «أداة وموضوع»، حسب تعبير بيرمان، أو بتعبير آخر إلى أداة صلدة، متماسكة، فإن ما بعد الحداثة - والاثنتان تشكلان تلك الفترة التاريخية المتوقعة التي تحدث عنها ماركس وإنجلز نتيجة قراءتهما لقوانين التطور ذاته - قد حولت العالم والإنسان إلى مادتين سائلتين، كالماء الذي يتسرب من أيدينا في كل الاتجاهات. إننا نعيش الآن «الحياة السائلة»، و«الأزمنة السائلة»، و«الخوف السائل»، و«الحب السائل».
كتاب باومان الأخير هذا، مرثية كبرى للحدث الذي هو الأكبر ربما في حياتنا، الحب: لا حب هناك. يقول لنا ذلك باومان ليس بضجة ولكن بأنين، على طريقة تي إس إليوت في رثائنا، نحن الرجال الجُوّف.
لا حب هناك. لا عزاء هناك. كل شيء يسيل الآن، وصار «الحب المتحقق» أقرب إلى الموت: «في ثقافة استهلاكية مثل ثقافتنا تفضل المنتجات الجاهزة للاستخدام الفوري، والاستخدام السريع، والإشباع اللحظي، والنتائج التي لا تحتاج إلى جهد طويل، والوصفات السهلة المضمونة، والتأمين ضد المخاطر كافة، وضمانات استرداد النقود المدفوعة».
شيء مقابل شيء... هذا هو عنوان حضارتنا. ولا عطاء بالمجان في «الحب» المعاصر كما كانت تجارب الحب الكبرى. صار الحب مخيفا كالموت، لأن ذلك يتطلب أن تخرج من ذاتك من أجل أن تستكشف الذات الأخرى، أي تستكشف العالم، ومنحها ما تملك بكرم، وتمد لها اليد حين تحتاج يدا، وتبسط لها الكتف حين تتعب. ما عاد الأمر كذلك. ولكن الإنسان، لأنه يحتاج إلى الحب، سيخترع وهمه. وسيجده في الشبكة، كما يجد أي سلعة أخرى، ولكن إذا كانت السلعة شيئا ملموسا، فإن «شريك الشبكة»، المفترض، الذي سيختاره من قائمة مرشحين طويلة حسب الشعر، أو الجلد، أو، الطول، أو العمر، هو وهم كبير ليس إلا، فالإنسان «ليس جملة مواصفات جسدية أو اجتماعية»، وإنما هو ذات إنسانية، لا تستطيع أن تعكسها أي شبكة سحرية... تكشفها الحياة فقط. بجملة أخرى، صار الحب عملية تسوق وقد تكون البضاعة جيدة أو رديئة، وفي الحالة الأخيرة يمكن استبدالها. عالم مرعب يرسمه لنا باومان، لكنه عالمنا، الذي نرفض أن نراه، وننكر حتى وجوده.
كان الشاعر الإنجليزي فيليب لاركن، الذي رفض «سيولة» عصرنا، واتهمه البعض بالعدمية والتشاؤم وحتى بمعاداة البشر، قد قال مرة في أواخر حياته البائسة: «لا يبقى سوى الحب»، لكن باومان يقول لنا: «هذا وهم كبير. عفوًا، ليس باومان، بل عالمنا السائل يقول لنا: هذا وهم كبير».