فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

عودة أخينا الأكبر

بعد 68 سنة من صدورها، تعود رواية «1984» لجورج أرويل لتحتل قائمة الكتب الأكثر مبيعا على موقع أمازون، وهو أكبر موقع في العالم لبيع الكتب. والسبب واضح جدا؛ إننا ما نزال نجد أنفسنا فيها، وما تزال شخصيتها المهيمنة «الأخ الأكبر»، الذي لا يملك اسما، معاصرا لنا، لم يتغير شيء. يمكن أن نغير السنة في العنوان لتصبح أي سنة أخرى في تقويمنا الزمني، من بداية القرن العشرين حتى أيامنا هذه، التي تشهد صعودا مخيفا لليمين المتطرف بشكل يذكرنا بظاهرتي الفاشية والنازية الشعبويتين، اللتين أنتجتا الأخ الأكبر هتلر في ثلاثينات القرن الماضي، ثم الإخوة الكبار الذين تبعوه، وخصوصا شرقا.
لننس ارتباط ظاهرتي الفاشية والنازية بصعود «رأس المال المالي»، كما علمنا علم الاقتصاد الكلاسيكي، فهما لا يعنيان في الجوهر سوى شيء واحد وإن بأشكال مختلفة: الانعزالية، ومعاداة الآخر، والشعور الوهمي بالتفوق. وكل ذلك يتجلى الآن بشكل صارخ في أكثر من مكان، من بريطانيا، إلى فرنسا، وأميركا، أي في قلب البلدان التي ناضلت، منذ الحرب العالمية في الأقل، لاجتثاث هذه الظواهر التي تنتمي لعصور بائدة، أكثر من انتمائها للمجتمعات المتحضرة. أخونا الأكبر يعود الآن ليحصي أنفاسنا، ويتجسس على نأماتنا من خلال أجهزته الرهيبة، المرئية وغير المرئية، مصنفا إيانا رتبا أعلى وأدنى في سلم الإنسانية، وقائلا لنا بصريح الكلام إننا لسنا سوى كائنات معزولة عن بعضها، وجزر بينها حدود ما بعدها حدود، مرتديا قناع الديمقراطية هذه المرة.
كان أرويل، كما هو معروف، قد كتب روايته «1984» عام 1949، قبل موته بسنة واحدة بمرض السل، متوقعا أن يبدأ عصر الأخ الأكبر الرهيب عام 1984. آنذاك، لم تكن الديكتاتورية قد تحولت بعد إلى منظومة سياسية واجتماعية وثقافية متكاملة، رغم القمع الداخلي الرهيب في فترتي الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا. لكن أرويل، ككل المبدعين الكبار، استشرف بحسه الروائي، انطلاقا من تجربته الخاصة، وعمق قراءته لواقع المجتمعات الأوروبية الذي كان يمور تحت السطح، الخطر الأكبر الذي يكمن، بالدرجة الأولى، في تزييف الحقيقة، التي تدعي السلطة بمختلف أشكالها أنها تمثلها، وتريد تعميمها علينا، بقوة القمع والمال والإعلام.
لقد ناضل أرويل مثل بطله وينستون سميث في «1984»، ضد تشويه الحقيقة، ليس في كتاباته فقط وإنما في ممارسته أيضا. فمن المعروف، أنه تطوع للقتال في صفوف الفصيل الأممي للدفاع عن الجمهورية الإسبانية الناشئة ضد قوات الجنرال فرانكو بين 1936 - 1939. وضم هذا الفصيل مجموعة من أكبر كتاب ومثقفي تلك الفترة، منهم الفرنسي أندريه مولرو، والبريطانيان دبليو إتش أودن، وسيسيل داي لويس، والأميركي أرنست هيمنغواي، والتشيلي بابلو نيرودا، لكنه عاد بخيبة أمل كبيرة من تجربة بناء الاشتراكية كلها، عكسها في روايته الأخرى الشهيرة «مزرعة الحيوانات»، التي انتقد فيها بشكل لاذع تشويه حقيقة الاشتراكية ومعناها النبيل في زمن جوزيف ستالين، وكيف قاد الانحراف إلى تدمير مجتمع بكامله، وأصدر في الوقت نفسه كتابه «تكريما لكتالونيا»، حيث قتل أكثر من خمسة آلاف شخص نتيجة القصف الجوي في أيام معدودة، ولم يفعل ستالين والعالم شيئا.
ولكن رغم كل ذلك، لم يضعف إيمان أرويل بقدرة الحقيقة على هزم الديكتاتورية. وكان الاسم الأصلي لرواية «1984» هو «الرجل الأخير في أوروبا»، إشارة إلى بطل الرواية الحقيقي وينستون سميث الذي لم يتعب من نضاله ضد «الأخ الأكبر». رواية «1984»، بكل فصولها المفجعة التي لا يمكن احتمالها عن القمع والتعذيب والكذب، رواية أمل أيضا، الحرب على الديكتاتورية لا يمكن خسرانها ما دام هناك شخص واحد يحاربها.