د. أحمد عبد الملك
كاتب واكاديمي قطري
TT

الخلل السكاني في دول التعاون

أصدر (مركز الخليج لدراسات التنمية) دراسة قيمة تناولت أوجه الخلل في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية والسكانية، وثبتت الدراسة المعلومات بإحصائيات دقيقة توضح أوجه الخلل. واختتمت الدراسة بخاتمة ترسم طريق بناء دولة المواطنة والتنمية والأمن والوحدة.
ورغم أهمية كل الملفات التي عالجتها الدراسة، فإن موضوع الخلل السكاني يظل هاجسا مؤرقا لمواطني دول المجلس.
وفي هذه الجزئية تكشف الدراسة عن «أن نظام الإنتاج الاقتصادي اعتمد على تهميش دور المواطنين إنتاجيا حتى أصبحوا لا يمثلون أكثر من نصف القوى العاملة في أي من دول المجلس». وبينت الدراسة أن حجم الخلل السكاني تجاوز نسبة 85 في المائة من مجموع عدد السكان في بعض الدول، أغلبهم من الأيدي العاملة! ولقد وصل عدد سكان دول مجلس التعاون عام 2011 إلى أكثر من 5.‏46 مليون نسمة، 52 في المائة منهم مواطنون (أي 3.‏24 مليون) و48 في المائة منهم أجانب أي (1.‏22 مليون)! وتوقعت الدراسة أن يتعدى عدد الأجانب عدد المواطنين خلال خمس سنوات على أبعد تقدير! فيما يشكل الأجانب الأغلبية المطلقة في أربع من دول المجلس! وبالنسبة لسوق العمل، أشارت الدراسة إلى أن إجمالي عدد القوى العاملة في دول مجلس التعاون يفوق 6.‏18 مليون شخص عام 2011 (69 في المائة منهم من الوافدين، و31 في المائة منهم من المواطنين). وترى الدراسة أن السياسات الاقتصادية قد أكدت الحاجة للقوى العاملة، بحيث أصبح المواطنون «شركاء» في خلق هذه المشكلة، كونهم يستفيدون من الخلل السكاني القائم ولو بشكل نسبي، مقارنة بالحكومات. وتضع الدراسة اللوم على الاعتماد على الاقتصاد الريعي للنفط، وهو ما «همش» دور المواطنين إنتاجيا. كما أن الميزات الحصرية التي توفرها الدولة للمواطنين ساهمت في تهميش دور المواطنين في المشاركة السياسية والاقتصادية.
ويتخوف كثير من المحللين الخليجيين من اتساع مساحة الخلل في التركيبة السكانية في دول التعاون وحدوث «هزات» اقتصادية عالمية أو محلية قد تؤذن بـ«شل» الحركة الاقتصادية والخدمية في هذه البلدان، خصوصا فيما لو شبت حرب في المنطقة الحساسة، وهذا احتمال وارد، ما يذكرنا بما حصل في دولة الكويت إبان الغزو العراقي لها عام 1990 وهجرة الوافدين بشكل ساهم في شل حركة البلاد وأفرغها من الخدمات الأساسية.
ورغم أن النفط مادة قابلة للنضوب - وهي عماد الدولة الريعية - فإن أي نقص في الإنتاج أو هبوط الأسعار، سوف يؤثر على الاقتصاديات الخليجية، كون ميزانياتها العامة تعتمد على النفط - وبعضها على النفط والغاز - وبذلك يتفاقم الدين الخارجي. (تشير الدراسة إلى أن حصة المواطن من الدين الخارجي قد تزيد على 742 ألف دولار. وهو رقم «مقلق» خصوصا أن دولا غنية بعينها تزيد حصة كل مواطن فيها من الدين الخارجي على 300 ألف دولار.
والإشكالية الكبرى - كما تذكر الدراسة - أن هنالك فوارق بين إيرادات الصادرات الفعلية والإيرادات المعلنة رسميا من الغاز والنفط تعدت 750 مليار دولار على مدى الفترة من 2002 - 2011.
فأين دور المواطنين في هذه القضية التي تخص مستقبلهم ومستقبل أبنائهم؟ وهل من الرجاحة أن يستمر الخلل السكاني إلى ما لا نهاية؟ مع التقدير لحاجة دول المجلس إلى العمالة الوافدة نظرا للمشاريع العملاقة التي تقيمها، ومرافق الخدمات العامة المتعددة التي تحتاجها الدولة الحديثة.
وكلنا يذكر أن تجمعات اكتشفت في إحدى دول المجلس يسكنها أفراد من جنسية واحدة، لا يعترفون بالقانون المحلي، ويمارسون حياتهم في تلك التجمعات بعيدا عن روح العصر، حيث يتم قطع يد السارق - ولو كان طفلا - أو يمارسون عادات اجتماعية عفا عليها الزمن، وغيرها من الممارسات. وغني عن البيان أن تكدس العمالة في منطقة واحدة يهيئ المناخ لدعوات التخريب والعبث بالأمن والتزوير وزيادة معدل الجريمة.
نقول: إن المواطنين قد ساهموا في المشكلة، وذلك بقيامهم بتأجير منازلهم للعزاب، وكثيرا ما اشتكى مواطنون من هذه الظاهرة، نظرا للأمراض الاجتماعية التي تنتج عن سكن هؤلاء وسط الأحياء التي يقطنها مواطنون أو عائلات عربية. ناهيك عن المجمعات السكنية الجماعية التي تفتقر أحيانا لمواصفات السلامة والصحة أو الخدمات، وحتما تنتشر فيها بعض الانحرافات.
الخطر الأكبر لتكدس العمالة في حيز محدود هو الجنوح الفكري، ولقد شهدنا - في مناطق في دول التعاون - دعوات في المساجد للجهاد والتغرير بالشباب نحو الذهاب إلى أفغانستان وغيرها، في مقابل (حور العين) وغيرها من المغريات التي ينشده لها الشباب. نحن هنا لسنا ضد الجهاد - حتى لا يفهم كلامنا خطأ - بل نحن مع إعداد الشباب لبناء بلدانهم وخدمة مجتمعاتهم وللمشاركة في صنع الحياة لا صناعة الموت.
ويتصل بهذا الخطر احتمال قيام تلك الجماعات - وهي متشددة دينيا في بعض المناطق - بأعمال تضر بالأمن الوطني، في حال حدوث إرباك سياسي أو خلل أمني في هذه الدول.
نأمل أن تجري دراسة هذه المشكلة بروح من المسؤولية، بدلا من الاعتماد على الدراسات الأجنبية، وعلى «ردة الفعل»، التي تكون غالبا متأخرة وغير ناجعة.