تحتاج البشرية إلى زمن طويل جدا، لا أحد يستطيع تحديده وقد يصل حتى إلى قرن أو أكثر، لتتعافى من آثار الكوارث الكبرى. الحرب العالمية الأولى، إذا لم نتحدث عن ضحاياها الملايين، ما تزال ماثلة في خرائط العالم الذي شكلته، وخاصة في الشرق الأوسط. وما تزال الحرب العالمية الثانية حاضرة بشكل خاص في أوروبا، التي شطرتها إلى نصفين، تفرقا كثيرا حتى التقيا بعد أن شاخا، لكن ظلا غريبين عن بعضهما، رغم أنهما يسكنان في بيت واحد.
وظن العالم بعد سقوط جدار برلين 1989، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 أن ما سميناه تجوزا «الحرب الباردة» قد انتهت، وأن البشرية تبدأ عهدا جديدا لا أقطاب فيه. ثم اكتشفنا بعد حين أن التوازن المطلوب لم يعد قائما، وأن مركز العالم قد تخلخل لصالح قطب واحد، وأن هذه الحرب لم تنته تماما. ثم اكتشفنا أيضًا، ولو متأخرين، أن القطبين لم يفعلا شيئا سوى أنهما تبادلا المواقع إلى حين، بانتظار اللحظة المناسبة التي يسنح بها التاريخ. وقد فعل كما يفعل غالبا في ألعابه التي لا نفهمها.
بحساب الكوارث، لم يكن عام 2016، عاما كغيره، فهو، كما يذهب مارتين كونواي بروفسور التاريخ الأوروبي في جامعة أكسفورد، حقبة كاملة وضعت النهاية الحقيقية للقرن العشرين، الذي حسبنا أننا خلفناه وراءنا، ورسمت بداية لمرحلة جديدة أمام البشرية لا أحد يعرف ماذا تنتهي. ونعتقد أنه على حق. فـ«شواهد» هذه الحقبة قوية بما يكفي: الرعب الذي خرج من حدوده لينتشر في شوارع باريس وبرلين، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعودتها في نهاية المطاف إلى جزيرة معزولة لا تشرق عليها الشمس كما كانت قبل أن تغزو الأرض كلها، الوحشية العصية على الوصف في سوريا، أولئك الوحوش الهائجون الخارجون من مقابر التاريخ، موجات المهاجرين والمهجرين التي لم يعرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، المد الشعوبي الذي يكتسح أوروبا في أكثر بلدانها تنويرا في القرن العشرين، انتخاب دونالد ترامب، الذي سيحكم العالم، وفلاديمير بوتين قيصر العالم الآن. سيكون عند العالم قيصران.
شيء ما يحدث، غير أنه قد يكون غير مكتمل الملامح بعد، ولكنه، كما تشير الشواهد، سيكون شيئا مختلفا عما سبقه في طبيعته ومضمونه وشكله... إلى أين سيمضي بنا؟ لا أحد يعرف، كما لم يعرف أحد في الماضي، أننا عما قريب سنسارع خطواتنا عائدين إلى الخلف. ليس حتى إلى الماضي، الذي قد خبرناه، وتعلمنا منه، كما نفترض، بل باتجاه ممرات جانبية نجحت البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، وإلى حد كبير، في تجنب منزلقاتها، موفرة على نفسها الكثير من المعاناة والألم والخراب. يبدو أن البشرية تسير الآن بلا إيقاع جاهدت كثيرا في الماضي في ضبطه ودوزنته، وهي تحث الخطى سريعا خبط عشواء وكأن لا تجارب راكمت في مسيرتها الطويلة نحو الخير والحب والسلام، ولا معرفة اكتسبت من كتب التاريخ.
لم يعد أحد يعرف شيئا، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث، فالمقدمات لم تعد تؤدي إلى النتائج، ولم تعد تنفع النظريات ومناهج التاريخ والاجتماع العلماء والمفكرين، ليس لأنهم أغبياء، بل لأن القواعد التي كانوا يحتكمون إليها لم تعد نافعة، كما يقول كونواي بحق.
هل تحتمل البشرية زمنا آخر من اللايقين المعذِّب أكثر من الموت البطيء نفسه؟
TT
القرن الحادي والعشرون يبدأ الآن
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة