عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

ملك الحزم... الذكرى الثانية للبيعة

يمرّ التاريخ بحساب الإنجازات لا بحساب الأيام، بالنسبة للقادة والزعماء، واليوم تحل على المملكة العربية السعودية الذكرى الثالثة لبيعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وحديث الإنجازات لا يضاهيه إلا حزم القرارات والمواقف وقوة السياسات.
الملك السابع للسعودية، بعد والده المؤسس، وأشقائه البناة، ملك الحزم والعزم، ملك الوفاء والعطاء، ملكٌ جسّد حكمة الملوك ورأفتهم بمواطنيهم وأشقائهم كما مثّل عزة الملوك وقوّة شكيمتهم مع الأعداء والخصوم، لا بالعنتريات التي تعودت عليها زعامات مختلفة حول العالم، بل بالقول الصادق والفعل النافذ والسياسة الواعية.
تختلف مصادر المشروعية السياسية من بلدٍ إلى آخر، وهذا معروفٌ على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وليس أكثر وهمًا ممن يعتقد أن نموذجًا واحدًا تطور في سياقٍ حضاري غربي يصلح لكل زمانٍ ومكانٍ، ويمكن للباحث رصد عشرات النماذج في القديم والحديث تختلف عن هذا النموذج الذي يتمّ تسويقه بحماسةٍ يدعيها ساسةٌ ومثقفون وتياراتٌ وأحزاب لم يكن لكثيرٍ منهم أي دورٍ فيها، فهي إما موروثةٌ من أجيالٍ سابقةٍ - كما في الغرب - وإما متبناةٌ نظريًا فقط.
مشروعية الدولة السعودية وأسرتها الحاكمة ضاربة الأطناب في التاريخ الممتد لقرابة القرون الثلاثة، ومشروعية الدولة السعودية الحديثة تمتد من إعلانها على يد المؤسس والموحد للبلاد الملك عبد العزيز ثم أبنائه من بعده، وصولاً لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان.
إنها مشروعية «التوحيد» و«الوحدة» التي امتدت سنواتٍ طوالاً على صهوات الخيل وظهور الجمال، وعزائم الرجال، ورؤية القادة، التي تشمل مشروعية التضحية والفداء والولاء حتى استقرت حدود الدولة السعودية وفرضت كامل سيادتها على أرضها الشاسعة وحدودها المترامية الأطراف.
إنها مشروعية «العدل» وإقامته وفرضه بقوة الدولة على جميع المواطنين، وقد كان الملك عبد العزيز يؤدب حتى أولاده عند ارتكاب الأخطاء، وهو ما فعله الملك سلمان منذ كان أميرًا للرياض ويفعله بعد وصوله لسدة الحكم.
إنها مشروعية إقامة الدولة بكل ما تعنيه من شرعيةٍ سياسيةٍ وأنظمة حاكمةٍ ومؤسساتٍ فاعلةٍ تتكامل فيما بينها، لترسيخ استقرار الدولة وهيبتها وفرض سلطتها على كامل ترابها الوطني.
إنها مشروعية «البناء والتنمية»، التي بدأت مع الملك المؤسس وأبنائه من بعده، وهي تشهد دفعًا قويًا في عهد الملك سلمان عبر الخطط المحكمة والاستراتيجيات المتكاملة، التي من ضمنها إعلان «برنامج التحول الوطني 2020» و«رؤية السعودية 2030».
ومن ضمنها مشروعية الاستقرار والاستمرارية ومشروعية الأمن والأمان ومشروعية التطوير السياسي المتدرج الواعي، وغيرها كثير، وهي كلها تترجم مكانة السعودية إقليميًا ودوليًا اليوم.
لم تختر السعودية يومًا الحرب سبيلاً لحل الخلافات مع الآخرين، ولكنها كانت على الدوام على الموعد حين تدق طبولها، كما قال الأمير الراحل سعود الفيصل، وقد شهد المجتمع الدولي صعودًا لمكانة ودور السعودية في عهد الملك سلمان، ومن ذلك قراره التاريخي بإطلاق «عاصفة الحزم» كحربٍ خشنةٍ لضرب التمدد الإيراني في الدول العربية واستجابة لدعوات الشرعية اليمنية والشعب اليمني الشقيق، وهي الحرب التي أديرت دوليًا وإقليميًا وخليجيًا على أعلى المستويات، ولم تزل رحاها قائمةً ولم يزل «التحالف العربي» بقيادة السعودية يحقق فيها النجاحات.
وقد أصبحت السعودية في عهد الملك سلمان دولةً أكثر تعبيرًا عن قوتها ومشروعيتها وأصبحت مدافعًا قويًا عن قضايا الدول العربية ومصالح شعوبها، وأصبحت الرياض مقصدًا لكل زعامات العالم وسياسييه الكبار.
وقد كانت مواقف الملك سلمان الحازمة في حماية مصالح بلاده ومصالح الدول العربية واضحةً جليةً حتى مع بعض قيادات الدول الكبرى الحليفة في الغرب، حين اختارت سياساتٍ لا تخدم التحالف العريق، بحيث اتضحت حكمته وحزمه وعزمه وصدقت رؤيته وصح موقفه وسياسته، وسيتذكر التاريخ هذه المواقف طويلاً.
لا يمكن لمقالةٍ واحدةٍ أن تحيط بالمنجزات وترصد المواقف وتذكر بالقرارات والسياسات، وهو أمرٌ من شأن الصحافة والإعلام، وستبرزه هذه الأيام، ولكن الراصد للمشهد العام يجد تطورًا كبيرًا في تعبير السعودية عن مكانتها الإقليمية والدولية، وقد ظهرت بعض ثماره للمتابع وما بقي أكثر وأشمل.
لقد كان الملك سلمان صريحًا مع شعبه في كل المواقف، بابه مفتوحٌ وهاتفه مفتوحٌ وقلبه مفتوحٌ للجميع كما هو تصريحه الشهير، ومن ذلك مصارحته لشعبه بأن الإصلاح الاقتصادي الشامل هو المستقبل الوحيد لبلاده ومواطنيه، وأن ذلك أمرٌ تحتمه الضرورة القصوى لا مجرد الحاجة، والقائد مجبرٌ على بعض القرارات التي تضمن حاضر ومستقبل البلاد والمواطنين، حتى وإن كان في بعضها شيء من التعب والألم، ويمكن تذكر حديثه الشفاف في افتتاح الدورة الأخيرة في مجلس الشورى.
ليس الإصلاح الاقتصادي فحسب، بل التطوير الاجتماعي الذي أصبحت بعض مفرداته ضروراتٍ غير قابلةٍ للتأجيل، قاد الملك سلمان، ذلك بنفسه بتدشين المشاريع الاقتصادية الكبرى والمشاريع الثقافية والمعرفية، والمشاريع الاجتماعية، وقد تجلى كثيرٌ منها في مدة قصيرةٍ لم تتجاوز السنتين، وصار التغيير ملموسًا لدى المواطن يجده في تفاصيل حياته اليومية.
يتذكر السعوديون تاريخ مليكهم الطويل معهم، فله تقريبًا قصةٌ مع كل مواطن، إما شخصيًا وإما مع أحد المقربين، وهم يتذكرون «سلمان الرياض» الحاكم لإمارة بحجم دولٍ، ويتذكرون «سلمان المجتمع» الذي لا يترك مناسبةً سانحةً إلا تواصل فيها مع مواطنيه في السراء والضراء، كما لا ينسون «سلمان النظام» الذي يفرض نفوذ الأنظمة والقوانين على الجميع.
أما «سلمان العطاء» فهو تاريخٌ معروفٌ، ويتذكر السعوديون كيف أن مليكهم كان على الدوام راعيًا وداعمًا لكل حملات التبرع والإغاثة في كل الأزمات التي تعاطف معها شعبه، من اللاجئين الأفغان إلى البوسنة والهرسك، ومن قبل ومن بعد دعم الفلسطينيين في قضيتهم العادلة، وغيرها كثير، داخليًا وخارجيًا، وهذا الجانب يمثل ركنًا أساسيًا من شخصيته ورؤيته وسياسته، فعاصفة الحزم كانت مقرونةً منذ البداية بـ«إعادة الأمل» ومركز الملك سلمان جمع كل العطاء السابق في مؤسسةٍ أشمل وأكثر نفعًا، وهو مركزٌ يعمل في كثيرٍ من البلدان المحتاجة أو المنكوبة.
لا ينسى السعوديون أن مليكهم كان طوال تاريخه صديق الصحافة والثقافة، لا على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العربي والدولي، ومن هنا جاء دعمه المستمر والمتواصل لهذا القطاع الحيوي في تاريخ الدول والأمم والشعوب.
أخيرًا، من زعامات العالم إلى مصالح الدول الشقيقة والصديقة، ومن أكبر رئيسٍ إلى أصغر مواطن تمرّ الذكرى الثانية للبيعة حفاظًا على العهد ورعايةً للحاضر وأملاً في المستقبل.
[email protected]