نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

«إف 35» بين الساسة والمثقفين

بالغت حكومة نتنياهو في الاحتفاء بوصول أفضل طائرة حربية في العالم (إف 35) لإسرائيل، كبداية لإلحاق خمسين طائرة منها بالأسطول الجوي، مما يوفر ضمانة أكيدة للسيطرة على أجواء الشرق الأوسط.
إلا أن الاحتفاء المبالغ فيه لم ينجح في إخفاء قلق أهم المثقفين في إسرائيل من ظاهرة المبالغة في الاعتماد على القوة العسكرية، وإهمال ما هو أعمق منها في التأثير السلبي على الدولة، التي لا تزال لم تصل بعد إلى حد الأمان من التهديدات القريبة والبعيدة.
الكاتب الإسرائيلي بن كسبيت وضع يده على الجرح حين قال: «ماذا نفعل بطائرة يبلغ ثمنها نصف مليار شيقل، أي ما يزيد على المائة مليون دولار، بينما تلاشت واختفت مصادر التهديد العسكري الاستراتيجي لإسرائيل، فقد انتهت سوريا ولا خطر من الأردن ولا حرب مع مصر»، وكان جريئًا حين قال: «وبينما تبني إسرائيل قوة عسكرية لا لزوم لها، لا تفعل شيئًا لحماية نفسها من التهديد الاستراتيجي الأعمق والأخطر، وهو الذهاب سريعًا إلى حل الدولة الواحدة مع الفلسطينيين، الذي يسببه ويدفع إليه تراجع حل الدولتين إلى حد الاستحالة».
المبالغة الإسرائيلية في الاعتماد المطلق على التفوق العسكري، حتى على الأشباح، أصبح في نظر جزء لا يستهان به من مكونات المجتمع الإسرائيلي، عبئًا ثقيلاً يزعزع الشعور بالأمان... ذلك أن الاحتفاء بتفوق تسليحي، أو حتى اقتصادي، يُنسى بالعادة حين تنفجر قنبلة في مكان ما في إسرائيل، أو حين يضبط سكين أو مقص في سيارة فلسطينية، أو حقيبة يد نسائية.
اللافت للنظر في هذه المعادلة هو أن صدى أي عمل مهما قل شأنه ينتشر في إسرائيل كلها، ويذكر الإسرائيليين أصحاب القوة العسكرية والاقتصادية المتفوقة، بأن طائرة النصف مليار تصلح للتباهي، بينما الرعب الناجم عن نظرة حقد فلسطينية يعمق الخوف ويبعد الأمان.
المثقفون في إسرائيل أكثر واقعية من القادة السياسيين والأمنيين؛ فمعظمهم يدعو إلى تقسيم الدولة وعاصمتها، كمخرج حتمي من القلق الدائم الذي تسببه سياسة الدمج والإلحاق التي بدأت في القدس وتتواصل في جميع أنحاء الضفة، على نحو إن استطاعت إسرائيل فرضها بالقوة فهي بالتأكيد لن تستطيع هضمها، وما يحدث كل يوم في مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية «غير المهضومة» يدلل على ذلك.
مثقفو إسرائيل يعتنقون نظرية تنطوي على قدر كبير من المنطقية والواقعية، هي أن الاحتلال والضمّ والإلحاق والاستيطان، وحتى التفوق العسكري والاقتصادي والاستخباري، لا يؤذي الفلسطينيين فقط، وإنما يلحق أذى أفدح بالإسرائيليين، خصوصًا حين ينحسر الخطر الخارجي الذي برر التفوق التسليحي، لتجد إسرائيل صاحبة فائض التسليح والقوة نفسها وجهًا لوجه أمام خمسة ملايين فلسطيني يشكل كل واحد منهم مشكلة ظاهرة أو كامنة لإسرائيل؛ فماذا يفعلون بهؤلاء؟
هل يضمونهم إلى مليوني فلسطيني يعيشون داخل إسرائيل لينكسر التوازن السكاني لغير مصلحة الدولة العبرية؟
أم يُحضِرون آلاف الشاحنات لإلقائهم خلف الحدود كي يحلوا مشكلة بخلق ما هو أكبر وأخطر منها؟
هكذا يعالج مثقفو إسرائيل معضلة التفوق، وكيف صار عبئًا، بينما سياسيوها أصحاب القرار النهائي فيها يواصلون الاحتفاء بأفضل دبابة يمتلكونها، وأهم طائرة يضاعفون بها تفوق سلاح الجو، ويفتشون بصعوبة عن مكان تعمل فيه الطائرة والدبابة.