حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

في جدل الهوية!

عندما سقط الجدار الفاصل في برلين، غرق العالم بأسره في بحور الأحلام والأمل والطموحات. فالعداء والصراع الساخن والبارد بين الغرب والاتحاد السوفياتي انتهى بالسقوط المدوي للفريق الثاني، وهو الذي أبعد خطر الحرب النووية بين الطرفين بشكل نهائي. وطبعا جاء الوعد العظيم أنه بهذا السقوط الكبير ستنتشر الديمقراطية وتثبت الحقوق ويعم الرخاء بعد تطبيق الرأسمالية الليبرالية وانتشار مفهوم العولمة للجميع.
العولمة جاءت بالوعد العظيم، وهو أن تختفي كافة الحواجز بين الأقطار والدول في المعمورة، وأن يتسارع انتقال البشر والسلع والأموال والأفكار والمعرفة، محدثة بالتالي عصرا عالميا جديدا لا يختلف في تأثيره وفي أهميته عما كان عليه عصر النهضة في قارة أوروبا على سبيل المثال. واستمرت التوقعات والطموحات في ارتفاع مهول حتى قيل عن تلك الفترة إنها نهاية التاريخ نفسه! ولكن شيئا ما حدث.. هذا التوجه «العام» والقوي جدا والذي كان يعد الناس بشكل واحد وهوية واحدة وحقوق موحدة، أخاف مجاميع غير قليلة حول العالم، وبدأت بالتالي تتعلق بالجذر الأقوى الذي تحافظ فيه على «هويتها» سواء أكان ذلك باسم الدين أم الطائفة أم المذهب أم المنطقة أم القبيلة أم العائلة، وكلها ردود فعل مبنية على الذعر والخوف والقلق من «ذوبان» الشيء الأساسي الذي يعرفونه ويدركونه ويشعرون بالأمان تجاهه، وبدأت بالتالي أسئلة «الهوية» تظهر مجددا، ومن الذي يقرر «الانتماء»، وما هي شروط هذا الانتماء، وبالتالي سداد ثمن «الولاء»!
وعلى ما يبدو هناك رفض قطعي وشديد الوضوح من الكثير من الثقافات الضعيفة والهشة والخائفة والمذعورة أن تقبل وتتعايش مع هويات «متعددة»، وهو ما ولّد نوعا من التردد أن يكشف المرء، وبالتالي أيضا المجتمع، أنه نتاج وجود وتعايش تعددي وثري يضيف إليه ولا ينتقص منه، وكأن ذلك تهمة من التهم التي يجب أن يدافع فيها عن نفسه حتى تثبت براءته، لأنه بمجرد أن يتمسك بهوية واحدة وأحادية فهو تلقائيا سيسعى لإلغاء الآخر تماما في معظم الأحيان.. كل ذلك من أجل «تأكيد» و«تثبيت» الذات بشكل همجي وأهوج، وأصبح من نافلة القول أن مجتمعاتنا وكأنها حكم عليها أن تكون مسرحا للاقتتال والخلافات وأنهار الدماء، لأن مَن يسكن عليها لا يعتنقون نفس الديانات ولا يمارسون الدين بنفس المذهب ولا يتحدثون نفس اللهجة واللكنة، وليسوا ينتمون إلى نفس «شجرة العائلة»، ولا يتوافقون في درجات اللون الذي تحمله بشراتهم وألوان عيونهم ليست على ذات الدرجة من البريق واللمعان، ولا هم ينتمون إلى ذات الثقافة الواحدة، وفي النهاية تكون النتيجة المؤسفة والبشعة والحزينة تناحرا لا ينتهي ودورة التاريخ تعود مكررة نفسها من دون جدوى، بينما حضارات أخرى يبدو أنها حسمت موضوع الخلاف «داخل» أروقة المحاكم وتحت سلطة القانون وأعين العدالة ومطرقة القاضي لا في ساحات المعارك وتحت الرصاص والمدافع والقنابل.
الهوية باتت مسألة أوسع جدا مما يعتقده كل غير مدرك للواقع اليوم، فنحن نتاج للعطاء العالمي ونتطبع به بالصفات والقيم والعادات، ومع مرور كل جيل تتشكل فيه جينات «قيمية» أميركية وكورية وفرنسية وإيطالية وبريطانية ويابانية وصينية بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وذلك بسبب التأثير الهائل على قيمة وأخرى، وقد يعترض البعض قائلا إن هذه الحالات هي حالات فردية وشديدة الخصوصية، ولكن الرد على ذلك ممكن بسهولة، وهو ربما تحولت هذه الحالات الخصوصية والفردية إلى كم هائل لا يمكن إغفاله ولا إنكاره وتراكمت حتى أصبحت واقعا عدديا لافتا.
الانتماء إلى أوروبا والهوية لمن يعيش فيها تحول إلى واقع «جديد» تتعامل فيه أوروبا، فتتحدث عن التركي والأفريقي والمسلم والكردي والصومالي والغجري والعراقي على أنهم جزء من الهوية الأوروبية الجديدة، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين من أصول لاتينية في الولايات المتحدة والأفارقة والصينيين والهنود، وهم أميركا الجديدة.
الهويات تتشكل وتتبدل وتبقى الأمم التي تنجح في التعامل مع هذا التغيير بالتدريج، فتتحول هذه الأمة من مجرد أمة إلى حضارة متكاملة، وهذا هو الفرق العظيم.