فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

شبح يجول في ليل العالم اسمه «الشعبوية»

للتاريخ دوراته الغريبة، أو في الأقل تبدو كذلك من السطح. بدأ القرن العشرون بالحركة الاشتراكية التي استقطبت ملايين الناس في المعمورة، وعمّرت الأنظمة التي حكمت باسمها في نصف أوروبا أكثر من سبعين عامًا. وفي البلدان العربية وأفريقيا، ركب قطارها السريع الجنرالات عبر انقلابات عسكرية متتالية، ودهسوها في النهاية بالدبابات المجنزرة، وأدخلوها السجون المحصنة، بينما كانوا يهتفون باسمها في الشوارع. كانت فكرة جذابة من الصعب مقاومة إغرائها الساحر، ووعودها الكريمة بالسعادة والرخاء لبني البشر فوق هذه الأرض. أصبحت حلم الملايين، وسال دونها كثير من الدم.. وربما لا تزال حلمًا مستحيلاً.
مضت دورتها، وقد لا تعود قط. ولكن من يدري، فالتاريخ لا يسير في خط مستقيم.
وبموازاة ذلك، نمت النزعة النازية بسرعة عجيبة، مهددة بابتلاع العالم كله، ولم توقف زحفها سوى حرب كونية حصدت ملايين من أرواح البشر. من يحرك التاريخ؟ كيف تخرج فجأة من مكنوناته كل الأشباح التي تصورنا أنها تلاشت منذ زمن بعيد، وكيف تنهض من سباتها كل الوحوش التي توهمنا أنها نفقت بعدما عاثت بنا وفي الأرض خرابًا؟
بدا لسنين أن «نهاية التاريخ» حلت، وأن «الإنسان الأخير»، بتعبير منظر الليبرالية الغربية فرانسيس فوكوياما، قد تحقق، وأننا «وصلنا الآن إلى نقطة حيث لا يمكننا أن نتخيل عالمًا بديلاً يختلف عن عالمنا الذي لا يقدم لنا طريقًا واضحًا للحصول على مستقبل أفضل، لذا يجب أن نأخذ في الاعتبار إمكانية أن يكون التاريخ نفسه بالمثل قد انتهى».
ولكن التاريخ لا يسير في خط مستقيم، بل يدور. نسينا ذلك. دائما ننسى ذلك. من رحم المجتمعات الليبرالية نفسها، حيث تحقق الحد الأقصى من فردانية الإنسان، وحقوقه، والسيادة العليا للقانون، والدورات الانتخابية، وإشباع معقول للحاجات المادية، يولد الآن شبح يجول في أوروبا.. تشكلت ملامحه طويلاً قبل أن ينتصب على قدميه عملاقًا مخيفًا. كيف ولد هذا الوحش في مجتمعات وأدته منذ أمد بعيد، ونامت مطمئنة، بينما كان يصارع للخروج، وإثبات ذاته في هذا العالم؟
في مقابلة معه قبل سنوات، استغرب نعوم تشومسكي صمود المنهج الاقتصادي الليبرالي الجديد، على الرغم من أزمة عام 2008 الرأسمالية وآثارها المأساوية، وتساءل عن سبب عدم ظهور رد فعل قوي مثلما حدث بعد الكساد العظيم، ويقصد به أزمة الرأسمالية الغربية عام 1929.
الرد القوي، وقصد به تشومسكي الحراك الجماهيري، والانتفاضات الشعبية، لم يتحقق، في تقديرنا، لأن هناك انغلاقات عصية في هذه المجتمعات لا تسمح بذلك، بالإضافة إلى نكوص مريع في الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي خلقته طبيعة المجتمعات الرأسمالية نفسها. وينتج عن هذا النكوص غير المفهوم لغالبية الجماهير في هذه المجتمعات، القلق، والشعور بالغربة، وانسحاق الذات أمام قوى طاغية غير منظورة، ولا يبقى أمام هذه الجماهير سوى الهروب إلى الأمام، وتعليق الأمل على شعارات هلامية، وهمية، مليئة بالوعود الكاذبة، التي أجاد اليمين المتطرف ترويجها على نطاق واسع.
التيار الشعبوي الصاعد الآن بزخم متسارع هو قفزة عملاقة ليس إلى الوراء فقط، بل في فراغ مريع.
شبح يجول الآن في ليل العالم في غفلة لن يغفرها التاريخ.. أم إنه «مكر التاريخ» مرة أخرى، في دورة شيطانية جديدة؟