قبل أن يأتي منتصف الليل بأضوائه اللامعة معلناً عن مولد عام جديد، سوف يكون هناك الكثير من الأحبار قد استُهلكت، وجرى الكثير من التمنيات المعبرة عن الأحلام أو الحكمة. المهم هو أنه عند هذه اللحظة ما بين عامين، وجسر ما بين زمنين، فإن التقاليد البشرية جعلته احتفالاً يغطيه الإعلام الكوني من أول انتصاف الليل في المحيط الباسفيكي شرقاً، حتى نصل عبر المسيرة الزمنية غرباً إلى المحيط ذاته من الناحية الأخرى غرباً. العبور لا يجري فقط بين خطوط الطول والعرض، وإنما فوق مسافات تقاليد وثقافات، وعوالم مختلفة الإيقاع بين التفاؤل بعام يكون أكثر سعادة، وبين التشاؤم الذي استسلم أصحابه أن الدنيا كعادتها تنتقل من سيئ إلى الأكثر سوءاً. قضية الحديث دائماً مركزها مدى التغيير فيما كان والتوقع لما سوف يأتي، والعالم ممتلئ بالكثير من أحاديث التغيير والانقلاب رأساً على عقب، والذي يظهر بعده نظم دولية وعالمية جديدة. الأمر هكذا ليس جديداً في حد ذاته، فكلما حل بالكوكب ملمة أو مصيبة، فإن هذه الحالة تنتاب المفكرين والمحللين، أما الساسة فإنهم يتأملون ما سوف تأتي به الأيام من وقائع وحقائق يصبح عليهم الائتلاف معها أو معارضتها أو تجاهلها كلية. وما يحدث على المستوى الكوني يجد له صدى في عالمنا العربي، حيث يوجد الشغف بأن أمراً جديداً سوف يجدّ، والمرجح أنه سوف يُنزل بالعرب سوءاً، ونادراً ما نجد اجتهاداً يطرح علينا ماذا يريد أهل منطقتنا أن يكون عليه الكون، وماذا يكون عليه حالنا؟
وعلى مدى العقود الثلاثة (1990-2020) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددين الأساسيين للنظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ولكن العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية وقع في مقدمتها أن المعسكر الغربي في عمومه والولايات المتحدة عاشت قدراً كبيراً من الوهن تجسّد في هزيمة الولايات المتحدة وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط، فضلاً عن تقلبها السياسي الداخلي ما بين مذاهب سياسية متعددة أدت في النهاية إلى انقسام وتشرذم، وعجز عن التوافق المطلوب في مجتمع سياسي ليبرالي ديمقراطي. وثانيها أن مجيء «الجائحة» وفشل الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربي في مواجهته فضلاً عن قيادة العالم في التعامل معه، أخذ الكثير من سمعة القوة والتكنولوجيا الأميركية. وثالثها أن الصين التي أخذت في الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى في النظام الدولي، ومن ثم بدأت في دعوات لمراجعة النظام الدولي بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأميركي. ورابعها أن روسيا التي عانت كثيراً من المهانة خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى تحت قيادة فلاديمير بوتين لكي تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة. عملياً أصبح هناك نظام جديد ثلاثي الأقطاب يضم الولايات المتحدة والصين وروسيا، وما بقي هو كيف تجري التفاعلات والعلاقات بينهم حتى نتحدث عن نظام دولي جديد؟
المتغير الأساسي، ومعناه القوة الدافعة للنظام الدولي في تشكيلته وفاعليته، هو قيادة دونالد ترمب للولايات المتحدة وانعكاس قيادته على أوروبا وآسيا في التخلص من الليبرالية السياسية والعملية، وعودة الدولة الوطنية مرة أخرى إلى مكانتها باعتبارها المكون الرئيسي للنظام الدولي. هذا المتغير هو صاحب الحضور الأكبر في ساحة الدبلوماسية العالمية لصناعة السلام سواء كانت في غزة أو أوكرانيا أو السودان أو البحر الكاريبي، أو الاستخدام المباشر للقوة المسلحة كما حدث من قِبل الولايات المتحدة تجاه إيران. الجديد في استخدام السلاح هو أن ذلك لا يستسلم إلى مجال «الحرب الأبدية»، وإنما كانت الحرب في الخليج منتهية بعد 12 يوماً وفي ظل قنوات مفتوحة بين واشنطن وطهران. العالم العربي يواجه العام القادم والعالم على هذه الصورة؛ ولكن يضاف لها ظروف إقليمية تتطلب الاهتمام والبحث الدؤوب. أولاً أن تأثيرات «الربيع العربي» لا تزال باقية في دول عربية تعيش ظروف الحروب الأهلية، وظل الميليشيات العسكرية، والتوجه نحو التفكك والانقسام الطائفي والعرقي والجهوي. وثانياً أن تهافت صفات الدولة الوطنية في هذه الدول ترجح تعميق الواقع البائس الذي يزداد التهاباً في اليمن والسودان وسوريا وليبيا والصومال؛ بينما الحالة الفلسطينية تزداد عجزاً بلا قدرة على إنقاذ غزة والضفة الغربية ولا قدرة على المصالحة الوطنية. معالجة ذلك يشكل مسؤولية على المجموعة العربية التي نجت من «الربيع» المزعوم، والتي لديها من التماسك الوطني والرؤية التنموية ما يكفي للسعي نحو الاستقرار الإقليمي، ولا يتحقق دون تعاونها الاستراتيجي الذي تدعمه نخبة من المفكرين والدارسين لمرحلة من أكثر مراحل التاريخ العربي حرجاً.
