د. سعود بن عبد الله العماري
كاتب سعودي
TT

الفرق بين الحصانة السيادية والحصانة الدبلوماسية

لا شك أن القانون الذي أصدرته الولايات المتحدة الأميركية مؤخرًا، والمسمى «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب»، أو قانون «جاستا» اختصارًا، بات اليوم مالئ الدنيا وشاغل الناس؛ إذ إنه يسمح للمؤسسات والأفراد الأميركيين، من ضحايا الحوادث الإرهابية، بمقاضاة الدول الأجنبيَّة، التي يزعمون تورطها في دعم أو تنفيذ عمليات إرهابية داخل الولايات المتحدة، أو خارجها، يتعرَّض، نتيجةً لها، مواطنون أميركيون، لإصابات أو حالات وفاةٍ أو أيَّة أضرار أخرى.
وقد وضح كثير من الكتّاب، ومنهم كاتب هذه المقالة، أن من شأن قانون جاستا أن يقوّض العلاقات الدولية وينسف مبدأ الحصانة السيادية. ونظرًا لما حدث، في بعض الطروحات، من خلط بين مصطلحي الحصانة السيادية والحصانة الدبلوماسية، حيث اعتقد البعض أن المصطلحين مترادفان ويحملان معنى واحدًا، فقد رأيت أن أبيّن للقارئ الكريم الفارق بينهما.
الحصانة السيادية هي أحد أهم المبادئ الراسخة في القانون الدولي العام، وتعني عدم جواز خضوع دولةٍ بغير إرادتها، لقضاء دولة أخرى. فلا يجوز لدولة ذات سيادة أن تفرض سلطتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة، إذ لا توجد دولة تملك الحق قضائيًا وقانونيًا في الحكم على أفعال دولة أخرى، وذلك استنادًا إلى مبدأ الاستقلال بين الدول، وبالتالي فإن فرض إحدى الدول سيادتها على دولة أخرى يعد انتهاكًا وإخلالاً بمبدأ السيادة.
ولا تقتصر الحصانة السيادية على الدول فقط، بل تنطبق، بالقدر ذاته، على قادة الدول وممثليها ووكلائها، فلا يجوز لمحاكم دولة ما مقاضاة حاكم أجنبي عن طريق وسائل التقاضي المتبعة فيها، لأنه يمثل دولته ويعمل ويتصرف باسمها، ومن البديهي أن تمتد إليه الحصانة الممنوحة لدولته احترامًا لسيادة دولته واستقلالها، وتمكينًا له من أداء المهام المسندة إليه، والأمر ذاته ينطبق على مسؤولي الدولة وممثليها الذين يتصرفون نيابة عن دولهم. ومن ثم، تعد الحصانة السيادية قيدًا أو استثناءً تنص عليه أحكام القانون الدولي والقوانين الوطنية.
أما الحصانة الدبلوماسية فهي بمثابة إعفاء للمبعوث الدبلوماسي من الخضوع للقضاء المحلي للدولة التي يُمثِّل دولته فيها، ومن بعض الأعباء المالية والنظم الإجرائية، التي يخضع لها المواطن هناك. ويقرر التشريع الوطني منح الحصانة الدبلوماسية لتلك الفئة الأجنبية احترامًا لمبدأ المعاملة بالمثل، المعمول به دوليًا، وتجاوبًا مع أحكام القانون والعرف الدوليين، تسهيلاً لقيام البعثات الدبلوماسية وأعضائها بمهام وظائفها.
ومصدر هذه الحصانة هو العُرف والاتفاقات الدولية، حيث إن هناك الكثير من الاتفاقات التي نظمت أحكام العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وتأتي في مقدمتها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، المُبرمة في سنة 1961م.
ولضمان منع الجرائم التي ترتكب ضد المبعوثين الدبلوماسيين، والمعاقبة عليها، أبرمت الأمم المتحدة، في عام 1973م، الاتفاقية الدولية بشأن منع ومعاقبة الجرائم التي ترتكب ضد الأشخاص المشمولين بحماية دولية، بمن فيهم المبعوثون الدبلوماسيون، الموقعة في نيويورك، والتي حددت الأشخاص المشمولين بالحصانة الدبلوماسية والحماية الدولية المقررة لهم.
وتعد الحصانة الدبلوماسية إحدى أهم الركائز والدعائم التي تنبني عليها العلاقات الدولية، وهي تهدف في المقام الأول إلى كفالة وضمان الأداء الفعال لأعضاء البعثات الدبلوماسية على الوجه الأمثل، عن طريق تمتعهم بقسط كبير من الحرية والاستقلال في التصرفات والأعمال التي يؤدونها، ولا يتأتى ذلك إلا بإعفاء هذه الفئات من الخضوع للقوانين الوطنية للدولة المضيفة، وفقًا لمبدأ المعاملة بالمثل.
وفي هذا الإطار، أقر العرف الدولي مجموعة من الحصانات والامتيازات للمبعوثين الدبلوماسيين، من أهمها؛ الحصانة الشخصية، التي تعني، عدم التعرض لذات المبعوث الدبلوماسي بأي اعتداء يوجه إليه، وأي فعل فيه مساس بشخصه أو امتهان لصفته. وقد نصت على هذه الحصانة المادة 29 من اتفاقية فيينا، المُشار إليها آنفًا، حيث نصت على أنه: «لشخص الممثل الدبلوماسي حرمة، فلا يجوز بأي شكل القبض عليه أو حجزه، وعلى الدولة المعتمد لديها أن تعامله بالاحترام اللازم له، وعليها أن تتخذ الوسائل المعقولة كافة لمنع الاعتداء على شخصه أو على حريته أو على اعتباره».
كما يتمتع المبعوث الدبلوماسي بحصانة قضائية تعفيه من المثول أمام محاكم الدول المضيفة أثناء مدة عمله بها. كما تقتضي هذه الحصانة أن يكون مسكنه بمنأى من أي تعرض أو مساس به من جانب أجهزة وسلطات الدولة المضيفة، فيُحظر عليها أن تقتحم هذا المسكن أو تدخله، إلا بإذن مسبق منه.
وتمتد الحصانة الدبلوماسية إلى جميع الأشياء والأدوات المتعلقة بالمبعوث الدبلوماسي، ومن ثم فلا يجوز التعرض لسياراته أو حقائبه أو منقولاته، أو أوراقه ومراسلاته الخاصة، أو التي يتبادلها مع حكومة دولته فيما يتعلق بممارسته لعمله.
وبهذا يتضح الفارق جليًا بين الحصانة السيادية والحصانة الدبلوماسية؛ حيث إن التمثيل الدبلوماسي يقوم على مبدأ الاختيار أو الإرادة، أي أن أساسه تراضي الدولتين أو الدول المعنية على إرسال بعثات دبلوماسية، وبالتالي فإن إيفاد المبعوثين الدبلوماسيين بين الدول هو أمر اختياري يتم بإرادة الدول ورغبتها في ذلك، ويمكن للدول أن ترفض أو تقبل أن يكون بينها تمثيل دبلوماسي. كما يمكن أن تقوم الدول بقطع علاقات التمثيل الدبلوماسي بينها بعد إنشائها لأي سبب من الأسباب.
أما الحصانة السيادية فهي مبدأٌ وقاعدةٌ من قواعد القانون الدولي الراسخة، التي يلزم جميع الدول، وفي جميع الأوقات، احترامها والامتثال لأحكامها وعدم الخروج عليها بأية حال من الأحوال، إذ لا يجوز لدولة من أعضاء الجماعة الدولية رفض الامتثال والإذعان لأحكام مبدأ الحصانة السيادية، حتى وإنْ كان هناك خلافٌ بينها وبين دولةٍ أخرى، وإلا عُدت دولة مارقة وخارجة على القانون ومنتهكة للشرعية الدولية.
* محام دولي وكاتب سعودي