بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

لوم الغير.. أسهل وأسلم

تعرض ديفيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية السابق، الأسبوع الماضي، لوابل من نيران النقد اللاذع بشأن قراره بالتحالف مع نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي، السابق كذلك، فيما جرى بليبيا ولها بفعل وقوف الاثنين معًا وراء إصدار مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1973 يوم الخميس 17 مارس (آذار) 2011 الخاص أساسًا بفرض مناطق حظر طيران، لكنه أجاز استخدام الوسائل الضرورية لتطبيق الحظر، مما شكل أرضية لتدخل طائرات حلف الناتو، وهو ما أدى بدوره إلى هزيمة قوات العقيد معمر القذافي وكتائبه، ثم سقوط نظام حكمه نهائيًا بتعذيبه شخصيًا وقتله لحظة القبض عليه نهار عشرين أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه.
انتقاد كاميرون ورد في تقرير من تسع وأربعين صفحة صدر عن لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم. رئيس اللجنة كرسبن بلانت، من نواب حزب المحافظين، وهو كان واحدًا من 557 عضوًا صوتوا مع كاميرون (مجموع أعضاء البرلمان 650) لكنه رغم ذلك لم يتردد في توجيه النقد اللاذع وفق ما تضمن التقرير: «كان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، من خلال قراراته، هو المسؤول الأول والأخير عن فشل وجود سياسة متكاملة بشأن ليبيا»، ويذهب اللوم خطوة أبعد فيوضح أن «حكومة كاميرون لم تتمكن من التحقق من التهديد الفعلي للمدنيين الذي كان يشكله نظام معمر القذافي، لقد أخذت بشكل انتقائي وسطحي بعضًا من عناصر خطاب القذافي، وفشلت في رصد الفصائل الإسلامية المتشددة في صفوف التمرد»، ثم إن مجمل استراتيجية التدخل «ارتكزت إلى افتراضات خاطئة وتحليل جزئي للأدلة».
النقد الأكثر صرامة، أتى من اللورد جنرال ديفيد جوليان ريتشاردز، رئيس أركان حرب الجيش البريطاني السابق، الذي كان عضوًا في مجلس للأمن القومي شكله كاميرون نفسه، وناقش سبل حماية بنغازي من تقدم قوات القذافي، وبدا متضايقا إزاء تجاهل رأيه آنذاك لجهة تحديد استراتيجية أكثر وضوحًا من هدف التدخل، خصوصًا لجهة التردد في الإعلان صراحة أن الهدف ليس فقط حماية بنغازي، بل إحداث تغيير شامل للنظام في ليبيا.
هل يمكن الدفاع عن مستر كاميرون؟ بالطبع، لست أقصد دفْع الخطأ عن سياسي قرر اعتزال الحياة النيابية، بعدما دفَع بشجاعة ثمن فشل مشروع الاستفتاء على بقاء بلده ضمن الاتحاد الأوروبي، إذ من الواضح أنه تورط في المجازفة الليبية من دون حساب تبعاتها، إنما قد يفيد هنا التذكير ببعض الحقائق.
أولاً، سبقت قرار مجلس الأمن موافقة الجامعة العربية بتاريخ الثاني عشر من الشهر ذاته، على فرض مناطق حظر الطيران الليبي، ولولا تلك الموافقة لما كان للقرار الدولي أن يرى النور.
ثانيًا، الفكر الداعم لما وقع في ليبيا، يقوم على آراء المفكر الفرنسي برنارد هنري ليفي، المنظّر لمقولة «الحرب من أجل السلام»، الذي استهلت هدى الحسيني حوارها معه لهذه الجريدة بسؤال صادم: «لماذا تكره العرب؟» - «الشرق الأوسط» عدد الخميس 15-12-2011 - وهو نفى عن نفسه هذا الكره في الحوار ذاته، لكن الواقع يقول إن كل ما حصل من تدخل أجنبي في كل شأن عربي، العراق قبل ليبيا، لم يجلب سوى الشر، وبصرف النظر عن نيّة الكراهية أو انتفائها، ليس سهلاً القول إن الغرباء الآتين من وراء البحار يريدون فقط الخير لمن نزلوا أراضيهم أو قصفوهم من السماء بحمم القنابل. الشجاعة توجب اعترافهم أن مصالحهم هي محركهم الأول.
ثالثًا، وهذا أوجع وأشد ألمًا، لو أن معمر القذافي حكم بالقسط والعدل، لما حصل ما حصل في الأساس. ولو أن الرئيس صدام حسين قدّم مستقبل العراق على مجده الشخصي، لما انساق وراء حماقة غزو الكويت وما نتج عنها. نعم، وقفة الرئيس العراقي أمام طموحات إيران الخميني وتطلعاتها في تصدير ما سمته «الثورة الإسلامية» تُسجل له. وربما كان العقيد القذافي جادًا إزاء التصدي لتمدد النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، فتُسجل له كذلك. لكن ما الفائدة أن يحرس صدام «البوابة الشرقية» للوطن العربي ضد تمدد نفوذ إيران، بينما هو متخاصم مع أطياف عدة من العراقيين رغم أنه يناديهم بوصف «الأماجد»؟ وما الفائدة أن يسدّ معمر القذافي أبواب أفريقيا أمام إسرائيل، فيما يلقّب نفسه «ملك ملوك أفريقيا» ويعادي نصف، أو ثلث، أو ربع، أو حتى خمس شعبه؟ هنا أسّ المشكل، وما هذا بجديد على أحد، لكن المدهش، مع أن الدهشة باتت تغط في نوم عميق بمتحف مشهد العرب المأساوي، هو أن لوم الغير ما زال هو الأسهل، وبالتأكيد الأسلم. ويبقى أن لحديث الشأن الليبي أكثر من بقية.